- عدالة الخالق
خلق الله الكون وضمنه كوكب الأرض، الذي يسكنه الإنسان. ومن شدّة حبّه للإنسان، خلق له كلّ شيءٍ، لينعّم في حياته، باستعماله الموارد الطبيعيّة. أعطى الله للإنسان السلطان، لكي يتسلّط على الأرض، أي بمعنى آخر، أن يحافظ عليها من أجل استمراريّة نسله. “على الإنسان العاقل، أكثر من أيّ وقت مضى، أن يحتضن الأرض، كما احتضنته لقرون طويلة، وإلاّ فلن يجد معالم للحياة في المستقبل. لأنّ العلاقة بين الإنسان والطبيعة مترابطة، فإذا تردّت أحوال الطبيعة، تُصبح حال الإنسان رديئة أيضًا. أوليست التنمية أحد مفاتيح تطوّر الإنسان على جميع الصّعُد، وشتّى الميادين؟” أوليس الإنسان هو المسؤول الأوّل عن أغلب ما يحدث في حقّ البيئة (الطبيعة) وأخيه الإنسان باستثناء الكوارث الطبيعيّة؟ ألا ترى أنّ العالم (المجتمع) هو صورة عن الإنسان الذي يعيش فيه؟ أيُّ إنسانٍ، لأيّ عالم؟
نعم، أعطى الله الخالق خيرات متنوّعة ومتعدّدة لجميع أبناء الأرضمن أجل أن يتقاسمها الإنسان مع أخيه الإنسان، وذلك بطريقة عادلة من أجل استمراريّة الحياة، كما أرادها هو.
يدعو الله الإنسان إلى شكره ليس بتدمير مشروعه للخليقة جمعاء، من خلال الطمع والجشع والأنانيّة وإلغاء الآخر وحرمانه من حقوقه وأبسط حاجاته للعيش الكريم، بل بممارسة العدالة والتعاون والتعاضد والأخوّة. يا ليت إنسان هذا العصر يُدرك أنّه فانٍ وزائل عن هذه الأرض. يدعو الخالق إلى تقاسم الموارد الطبيعيّة في ما بين البشر، كدليل على صورته العادلة. تُسهم العدالة على العيش بالسلام. إنّ السلام مع الله هو سلامٌ مع مخلوقاته، من هنا، إنلم يعش الإنسان سلامًا مع الله، فلن تنعم الأرض بالسلام. وعلى الرغم من وجود مصير مشترك لأبناء الأرض، تنشب الخلافات والحروب والاقتتال في ما بينهم، في أكثر الأحيان، على موارد الطبيعة وعدم ممارسة العدالة في شتّى أنواعها.
- عدالة البشر!
يُدرك الإنسان العاقل، أنّ ممارسة العدالة على أنواعها بين البشر، لها أهميّة قصوى في بناء السلام. فالعدالة القضائيّة ينبثق عنها محاكمات عادلة ومتوازية مع الجرم المُرتكب من قبل قضاء نزيه وقدير، والعدالة الاقتصاديّة ترتكز على العدل في العمل والحقوق والواجبات، وتوفير فرص توزيع الثروات والموارد الطبيعيّة. أمّا العدالة الاجتماعيّة فتقوم على توزيع وتأمين الحاجات الأساسيّة والضروريّة من: تعليم ومأكل وطبابة ومسكن وعمل.
إنّ المساواة بين البشر هي الصورة الصحيحة للعدالة بأنواعها. تُبرز تلك المساواة، أهميّة عيش الإنسان لإنسانيّته بفخر واعتزاز من دون نقصان، بل محافظًا على كرامته الشخصيّة. تُعَدّ المساواة المبدأ الأساس للعدالة، أيّ معاملة الحالات المتشابهة بالطريقة نفسها، كما معاملة الأفراد والأشخاص بالطريقة ذاتها، ما لم يكن هناك اختلاف بعلاقتهم في الحالة التي يشتركون بها.
هل يُدرك أبناء البشريّة أنّ العدالة الاجتماعيّة تحقّق المساواة والكرامة الإنسانيّة؟ واحترام الآخر وعيش المحبّة؟ هل يعمل مجتمع عصرنا (أفراد ومؤسّسات حكوميّة وغير حكوميّة) على احترام وتعزيز مفهوم وثقافة العدالة الاجتماعيّة؟ أين هي عدالة البشر من اقتصاد يُقصي أو من تفاوت اجتماعيّ، أو من عبادة المال؟ ألسنا في أزمة التزام اجتماعيّ؟ وانحطاط أخلاقيّ؟
تحاول كل عدالة اجتماعيّة أن تحُدّ من البؤس المُستشري في عالمنا، عبر روح الأخوّة التي تتغلّب على الأنانيّة الفرديّة. فالأخوّة تساعد على الحفاظ على البيئة وتنمّيها، كما على حقيقة الإنسان وقيمته. من هنا، لا بدّ من أن يلتقي أبناء الأرض في روح من الأخوّة، التي تفعّل وتجسّد روح التضامن، وتحقّق العدالة الاجتماعيّة، في حالة من المحبّة التي تدفع نحو السلام، الذي يهب ويساعد على النموّ الشامل. وعليه نُدرك أنّ السلام خير يطال البشريّة جمعاء، كما لا يمكنه أن يتجزّأ. إنّ الأخوّة هي الأساس والطريق إلى السلام. فهي ثمرة التعاون والتعاضد والتضامن، بين أفراد المجتمع.
- عراقيل ولكن…
من ضمن الأيّام العالميّة لمنظمة الأمم المتّحدة المخصّصة للاحتفالات “بقضايا” العالم، اليوم العالميّ للعدالة الاجتماعيّة، الذي يصادف في 20 شباط من كلّ عام. تأخذ تلك “القضيّة” مكانًا مهمًّا في مسيرة البشريّة، التي تتعرّض دائمًا إلى تحديّات جمّة، وأزمات وصعوبات لا تُحصى. تولي منظمة الأمم المتّحدة اهتمامًا كبيرًا، للمساهمة في إحلال السلام، المبنيّ أيضًا على العدالة الاجتماعيّة وغيرها، من مقوّمات وأسس، تحافظ على عيش السلام.
حبّذا لو تتحقّق عدالة اجتماعيّة سليمة، لأنّها تساهم في تخفيف حالة البؤس من مجتمعنا، وتحدّ من العنف والاقتتال، وتخفّف من وطأة مفاعيل الحسد والحقد، والمزاجيّة والكيديّة. نعم، هناك عراقيل ومعوّقات تعترض أيّ عدالة اجتماعيّة، لأسباب أبرزها غياب المساواة في توزيع الدخل الماديّ للأفراد، وتكافؤ الفرص، وعدم المساواة في الحصول على التعليم، وتوزيع الموارد، وانتشار الظلم والفساد والرشوة والمحسوبيّات و”الوساطة” وغياب الإرادة الداخليّة والحريّة الشخصيّة والخوف من أخذ المواقف الجريئة تُجاه الانتهاكات، التي يتعرّض لها الأفراد من جرّاء عدم المساواة بين الأفراد وبين الجنسين، والإذلال والدونيّة والتنكيل وهضم الحقوق واستغلال الإنسان.
بالرغم من الصعوبات والتحدّيات والعراقيل، يمكن مواجهة تلك الأمور بتعزيز تلك العدالة من خلال نشر الوعيّ الأخلاقيّ والقانونيّ والإنسانيّ الذي يؤدّي إلى بناء ثقافة عدالة اجتماعيّة تحدّ من الخوف على الغد، ونبذ الصراعات والنزاعات والاضطرابات والحروب بين الأفراد أوّلاً، والعائلة والمجتمع والأوطان. ويساهم في إيجاد حلول ممكنة ومعقولة ومقبولة بطرق سلميّة، كالمناقشات والحوارات. بالرغم من الصورة الضبابيّة والرماديّة وحتّى السودائيّة، هناك ضرورة تقبّل التنوّع والاختلاف واحترامهما، الأمر الذي يصبّ في خانة الاحترام المتبادل، والذي يؤدّي إلى العمل معًا، لتحقيق الأهداف السامية، التي يطمح لها أغلب الناس، والتي تعود بالخير على الأفراد كما على المصلحة العامة. إنّ تفعيل دور المجتمع المدنيّ، مع سياسات الحكومات الإصلاحيّة، تدعم تعزيز ثقافة التضامن والرأفة، والرحمة والمحبّة، للتغلّب على النوايا السيّئة والإرادات الخبيثة، كما على اللامبالاة. هذا يمهّد الطريق إلى مجتمع أكثر إنسانيّة، عبر دعم الجمعيّات والمؤسّسات، التي تُعنى بالمهمّشين والفقراء والمنبوذين، فتخفّف العنف وعدم الاستقرار، أمورٌ تؤدّي جميعها إلى زعزعة التوازن الاجتماعيّ، فيسود بالتالي الظلم والقسوة. بالرغم من وجود عراقيل جمّة، تُحبط أحيانًا العزائم والمعنويّات، وتقضي على الأمل بوجود حلول ملموسة وعمليّة، لا يمكن الاستسلام.
- نحو عدالة ممكنة
مفهوم العدالة اجتماعيّة هو عندما تطبّق المساواة بين أفراد المجتمع. هل غيابها من مجتمعاتنا حالة مستدامة؟ أمّ تبقى روح الأخوّة فاعلة في تضميد الجراح والآلام؟ الأخوّة لا تعرف التميّيز أو الإلغاء أو التهميش أو العزل، بل تولّد التوازن والطمأنينة والأمان، كما السلام الاجتماعيّ، لأنّها تخلق توازنات كبيرة، في ما بين الحريّة والعدالة، وما بين التضامن والحبّ الأخويّ والمسؤوليّة الشخصيّة، وما بين الخير العام وخير الأفراد. هنا تكمن أهميّة الأعمال الحسيّة والأفعال الملموسة، والمُعبَّر عنها بأعمال الرحمة والمحبّة، والمشاركة وتفعيل وتطبيق حقوق الإنسان. ألا نعتقد أنّ العدالة والعدالة الاجتماعيّة بالتحديد هي وسيلة دفاع ضدّ القمع والإقصاء والفقر والتهميش؟ أليست أساسًا للتنمية المُستدامة التي تطال التنمية البشريّة؟
البؤس بالمطلق حالة يسبّبها الإنسان ويغذّيها. كفى بؤسًا وإذلالاً لخليقة الله القريبة جدًّا منه. نعم لعدالة تُنصف المظلوم والمهمّش، وتوحّد البشر وتُنمّي الإنسانيّة وتبني السلام وتعزّز التنمية المُستدامة. تقدّم العدالة الاجتماعيّة توزيعًا جديدًا لمقدرّات الإنسان، من أجل خدمة البشريّة ومشروع الخالق لها.
لنسعى نحو عدالة اجتماعيّة تُحاكي كلّ أفراد المجتمع ليتمتّع الجميع بكلّ الحقوق، والتي تعمّ من خلالها المشاركة الاجتماعيّة والعقد الاجتماعيّ. كما التصدّي للبؤس والحرمان والقهر والاستغلال. فنفعّل الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن، ويتيح لكلّ فردٍ من أفراد المجتمع، الفرصة لتنمية قدراته ومواهبه وطاقاته، لتوظيفها في نموّ المجتمع والتقدّم المُستدام والتنمية المُستدامة.
لنردم الهوّة بين بعض أفراد المجتمع، المتأتّية من عدم تطبيق عدالة اجتماعيّة، بالعمل الجاد والمستمرّ، واستعمال شتّى الوسائل الإيجابيّة، للحدّ من البؤس الماديّ والمعنويّ والروحيّ، والانغلاق على الذات والخوف من الغد، بالدخول في حالة من القنوط والندابة، والتراجع الأخلاقيّ والإنسانيّ على جميع الصّعد (الاتّجار بالبشر، الإدمان على المخدّرات، السرقة، الفساد، استغلال النساء والأطفال…).
لنربّي على نظام القيم والمبادئ، المتمثّل بثقافة اللاعنف والمناصرة والدفاع عن كرامة الإنسان وحقوقه. لنسعى معًا، من أجل إيجاد حلول ممكنة للأوضاع الاقتصاديّة، من خلال إيجاد فرص عمل، والحدّ من البطالة على أنواعها، والتفرّغ إلى تطبيق سياسات اقتصاديّة ناجحة تكون بخدمة العائلة والشباب، من خلال التخطيط والتنظيم والرؤيا، للحدّ من التفاوت في دخل الأفراد واللامساواة، كما الانتباه لتراكم الثروات الفاحشة لأصحاب المؤسّسات الماليّة والعقاريّة، فيما يعاني قسمٌ كبير من الشباب البطالة ويهاجر قسمٌ كبير منهم بحثًا عن عمل، غالبيتهم من حملة الشهادات الجامعيّة. والعمل على تحسين مستوى الخدمات العامّة من تعليم وصحّة وبُنى تحتيّة، وماء وكهرباء وطرقات ونقل عام. تلك الأمور تُسهم في عدالة إجتماعيّة حيث يتمّ تطبيق نظامًا ضريبيًّا تصاعديًّا على الثروة، باستثمار عائداتها لتعزيز الخدمات العامّة لكلّ المواطنين، وخفض نسبة الضرائب التي تطال محدوديّ الدخل.
لنشجّع على تغيير الأفكار المسطّحة السلبيّة، بتبديل أساليب التعبير لإصلاح الخلل المتراكم تجاه اللاعدالة الاجتماعيّة، حيث تستطيع الديمقراطيّة أن تُثبت تلك العدالة من خلال احترام القوانين والأنظمة وممارسة الشفافيّة والخضوع للمحاسبة والمساواة، كما التحليّ بالصفات الحسنة من إنكار للذات والاستقامة والموضوعيّة والصدق والأمانة والتجرّد والإخلاص.
لنعلّم أولادنا على روح التضامن والرحمة والرأفة والإحسان، ولنعزّز فيهم روح التصديّ للعولمة “المتوحّشة” والفساد المُستشري، والغشّ والاحتيال.
لنعمل معًا من أجل إنسانيّة تُبلسم جراح وآلام إنسانها وتستلهم وتحتضن روح الله في ضميرها وحياتها لتأتي أفعالها وأعمالها مطابقةً لمشروع الله وتعاليمه.
الأب د. نجيب بعقليني
رئيس جمعيّة عدل ورحمة