CC0 - Pixabay

التطويبات، طريقٌ إلى السعادة

الودعاء اللطفاء الذين يربحون الناس فيكون تأثيرهم ناعمًا مثل الشتاء الخفيف الذي يدخل في الأرض فيجعلها خصبة

Share this Entry
راح أحد الكهنة الشبَّان إلى مخيَّم اللاجئين حيث الفقر والتعتير، وجعل يخطب فيهم: طوباكم، ما أسعدكم! أنتم الفقراء، أنتم المعدمين. سيكون لكم ملكوت السماوات. هنيئًا لكم! كلُّهم يضطهدونكم، يجوِّعونكم، يلاحقونكم، فلا مستقرَّ لكم. وردَّد خطابه مرَّة ومرَّتين. في المرَّة الثانية، انهالت عليه الشتائم والانتقادات. ما هذا الكلام تعال واسكن بيننا فنرى إذا كنتَ تقول بعدُ هذا الكلام!
ومع ذلك، أعلن يسوع في أوَّل عظة من عظاته، التي قيلت على الجبل: “طوبى للمساكين بالروح، طوبى للحزانى، طوبى للودعاء، طوبى لصانعي السلام…”. أتُرى يسوع يعيش خارج العالم؟ ألا يرى أين هي السعادة، والوجوه المحمرَّة والبطون الفارغة؟ عند الأغنياء، عند أصحاب القوَّة والعنف، الذين يدوسون الناس ويجعلونهم يركعون أمامهم من أجل لقمة العيش. أيريدنا نحن سعداء؟ أولادنا حفاة، إمعاؤنا فارغة، حالة تعيسة تدعو إلى الشفقة. وبعد هذا، نُحسَد لأنَّنا سعداء ولأنَّ ملكوت السماوات لنا.
ما يكون جوابنا؟ الفقر والعوز أمران لا يريدهما الله. فمنذ العهد القديم تمنَّى على شعبه ألاَّ يكون فقراء في ما بينهم. وكم كان يسوع قاسيًا على من يكدِّس المال. قال ذلك الغنيّ الذي نعته يسوع بالجاهل، بالغبيّ: “كُلي يا نفسي واشربي وتنعَّمي” (لو ١٢: ١٩). فقال له الله: “في هذه الليلة تُطلَب نفسك منك، وهذه التي أعددتَها لمن تكون؟” (آ٢٠). والغنيّ الذي رأى لعازر عند بابه ولم يساعده، كان نصيبه جهنَّم فاحتاج إلى نقطة ماء يرطِّب بها لسانه (لو ١٦: ٢٤). ثمَّ إنَّ المال المكدَّس هو “مال ظلم”، “مال شرّ” (لو ١٦: ٩). ولن يصبح مال حقّ ومال خير إلاَّ حين تعطيه.
١- السعادة أوَّلاً “بالفقر بالروح”، هي أن لا يتعلَّق قلبنا بشيء في هذا العالم. لأنَّ الربَّ قال: “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك”. إذا أنا تعلَّقت بالمال والممتلكات وعشتُ في البخل، هل أكون سعيدًا أم تعيسًا؟ وما يكون أولادي؟ والواقع، حين أتعلَّق بشيء أُصبح في النهاية عبدًا لهذا الشيء، فالحرِّيَّة الحقيقيَّة تقوم بأن نمتلك كلَّ شيء ونعتبر في النهاية أنَّ لا شيء لنا. في هذا قال بولس الرسول: “كأنَّ لا شيء لنا ونحن نملك كلَّ شيء.” هذا هو الفقر بالروح. وحدهم الذين يكونون من هذه الطينة يتركون وراءهم أثرًا، في البيت، في الرعيَّة، في المجتمع، بل في العالم. فالذي يلتصق ببيته، بأرضه، بأملاكه وبالذين عرفهم في صباه يبقى هناك، فيكون مثل الماء في اللقن: في النهاية يصبح هذا الماء آسنًا، نتنًا، وفي النهاية، لن يبقى ماء، فيصبح الإنسان فراغًا، جفافًا.
٢- هل اختبرتم يومًا العنف وأين يمكنه أن يصل بنا؟ قالت الشريعة القديمة: لا تقتل. ما اكتفى بها يسوع المسيح. قيل لكم، أمّا أنا فأقول لكم: “من غضب… من قال لأخيه: رقا (= مبهول)، من قال: يا أحمق…” (مت ٥: ٢٢). هل نعرف إلى أين يقودنا الغضب؟ إلى العداوة والقتل. فالغضب هو أوَّل الطريق إلى العنف. أمّا يسوع فرفض هذا المنطق: “كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دُمت معه في الطريق، لئلاَّ يسلِّمك الخصمُ إلى القاضي، ويسلِّمك القاضي إلى الشرطيّ فتُلقى في السجن” (آ٢٥).
مقابل هذا دعانا يسوع إلى السعادة: “طوبى للودعاء”. أصحاب اللطف في الكلام وفي التعامل مع الناس. غضبَ عليَّ أغضب عليه! ويتواصل العنف. ضربك على خدِّك الأيمن بيده اليسرى، وأنت تضربه باليمنى على خدِّه الأيسر، وهكذا تتوالى الضربات… كما كان القتل في العصور القديمة بين القبائل بحيث تفنى القبيلتان المتخاصمتان. منع الربُّ أحدًا أن يقتل قايين مع أنَّه قتل هابيل ذاك الضعيف. والرجل الذي قتل أخاه لسبب تافه وبناء على دعوة امرأته، مات هو قبل أن يموت أخوه، ها هو في السجن أو هو شارد تائه مثل قايين بعد أن فعل فعلته.
الوديع. على مثال يسوع الذي قال: “تعلَّموا منِّي فأنا وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت ١١: ٢٩). والمثل يقول: “الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء غيرها.” أمّا الأرض “المترفِّعة” فلا تستفيد حتَّى من مائها. أذكر مرَّة أحدهم آتيًا في طريق ضيِّقة وأطلَّ شابَّان في سيارة مكشوفة. وهجما قائلين: “ارجع”. نزل من السيارة وقال: “أنا لا أعرف أن أرجع والطريق ضيِّقة”. فأخذ الحياء منهما ورجعا إلى الوراء، فمرّ وشكرهما. فقال له أحد أقاربه: “هذان الشابَّان معروفان بـ…، يا ليت السلاح كان في يدي!” ذاك ما تقوله الرؤوس الفارغة والقلوب المتكبِّرة. ولا أفتح الباب على كلام العنف في البيت وبين الجيران والأقارب.
٣- “طوبى لصانعي السلام.” وهناك نسخة أخرى: “طوبى للعاملين من أجل السلام.” من بضعة عقود مات داغ هامرشكولد، الأمين العام للأمم المتَّحدة. وصل إلى اتِّفاق سلام بين اليهود والفلسطينيِّين ولكنَّ قوى الشرِّ لا تريد السلام، بل الحرب والظلم وسحق الآخرين. وفي أيِّ حال، كان شعار رومة: “إذا شئتَ السلام فاستعدَّ للحرب.” قولوا لي: ماذا تركت الحروب وراءَها؟ الموت، الجراح، الإعاقة، الدمار… وخصوصًا الجوع. تخيَّلوا أنَّ اليابان، بعد الحرب، منعَت من قتل عدد من الفئران في اليوم الواحد، ليبقى للآخرين ما يأكلون. ولا نقول شيئًا عن أوروبّا، بعد الحرب العالميَّة الثانية.
يفرح الناس بالانتصار الحقيقيّ أو الوهميّ. ويرفعون علامات النصر. على ماذا انتصر قايين؟ صار وحده. على من انتصرت ألمانيا أو اليابان وغيرهما من الدول؟ أهذه هي السعادة؟ هو الوحش يأكل فريسته وينام. سنَّة ١٨٧٠، قهرت ألمانيا فرنسا. فاستعدَّت فرنسا سنة ١٩١٤-١٩١٨ وأذلَّت ألمانيا في اتِّفاقيَّة قاسية. ولم تمضِ عشرون سنة حتَّى كانت الحرب العالميَّة الثانية، التي تركت وراءها ستِّين مليون قتيل، ما عدا الدمار… ولكن ما أجمل ألمانيا وفرنسا اللتين كانتا في أساس توحيد أوروبّا. أما هنا تكون السعادة حين يعمُّ السلام، لا في أوروبّا فقط، بل في العالم كلِّه وخصوصًا في عالمنا الشرقيّ الذي دخل في دوَّامة الحرب وترك وراءه التشريد والموت جوعًا والموت والدمار والنيران؟
“طوبى لصانعي السلام.” ذاك ما قال يسوع. والويل لمن يصنع الحرب! والسلام في البيوت والرعايا وفي المجتمعات الصغيرة أو الكبيرة. روَوا عن أحد المعلِّمين الكبار في العالم القديم، كيف كان يعمل ليضع السلام بين متخاصمين. يقول للأوَّل: لو تعرف ماذا قال عنك من تدعوه خصمك. قال أحلى كلام. ويمضي إلى الآخر ويقول له الشيء عينه. وهكذا تتمُّ المصالحة. ومقابل هذا، ما أسهل إشعال النار: نحمل الكلام بين الواحد والآخر ونضيف من عندنا. و”نفرح” و”نصفِّق”.  خطيئة كبيرة جدًّا. ويأتي من الخارج وهمُّه: “فرِّقْ تسُدْ”. إذا دخل الأقارب في أسرة جديدة، يخربونها. وكذلك الغريب. وخصوصًا عندما تمضي فئة إلى سلطة خارجيَّة. هي أحسن طريقة لخراب البلد. فكيف أتوافق مع الغريب لكي أقتل أخي؟ وهذا الذي حصل لفئات الكنيسة في الشرق: فئة لجأت إلى الشرق وأخرى إلى الغرب، فتفتَّتت الكنيسة عندنا. وإذا كنّا لا نعي الأمور، نزول بسرعة. تروي الأخبار القديمة عن “اثنين” تخاصما على “جبنة”. وإذ لم يقدرا أن يتفاهما مضيا إلى “الهرّ”، فأخذ يأكل الجبنة من هناك ويأكلها من هناك، وفي النهاية أكل المتخاصمَين.
أما نرى أنَّ السلام يحمل السعادة، والسلام لا يأتي في “سلَّة” من الخارج. نحن نصنع السلام. نحن نضع الفرح. لو تطلَّعتم إلى هذه الوجوه التي تبني حيث الدمار وتعيد الثقة إلى القلوب، لفهمتم أين تكون السعادة. كلُّهم معًا. من جميع المذاهب والمشارب كلُّهم فرحون. يعملون مجَّانًا. يحملون راية السلام فيصفِّق لهم الجميع.
الحرب لا توصل إلى السلام، بل تزيد البغض بغضًا والعنف عنفًا، وحبُّ الانتقام يشتعل وينتظر ساعته. أنريد أن نكون سعداء، أن يهنِّئنا الربّ، الدرب مفتوحة أمامنا.
٤- “طوبى لأنقياء القلوب فإنَّهم يعاينون الله.” القلب النقيّ، الشفَّاف، الذي لا غشَّ فيه ولا مواربة ولا التواء. هذا يعاين، يرى “بعينيه” الله. لا يحتاج إلى برهان من الخارج. وهل من سعادة توازي العيش مع الله. على ما كان المرتِّل يقول: “متى آتي (إلى الهيكل) وأرى الله؟”
قيل الكثير في أصحاب القلب والقلب، والنيَّة والنيَّة. مثلاً: “من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، ومن دحرج حجرًا رجع عليه. اللسان الكاذب يبغض مستحقِّيه، والفم الملق يُعدُّ الخراب” (أم ٦: ٢٧-٢٨). ونقرأ في أم ١١: ٣: “استقامة المستقيمين تهديدهم، واعوجاج الغادرين يخربهم.” ونقرأ مقطعًا رائعًا في سفر الأمثال (ف ٦):
١٢ هو رجل لئيم، رجل أثيم
​من يسعى باعوجاج الفم.
١٣ ​يغمز بعينيه، يقول برجله،
​يشير بأصابعه.
١٤ ​الكذب في قلبه
​يخترع الشرَّ في كلِّ حين
​ويزرع الخصومات.
١٥ ​لهذا يكون خرابه مفاجئًا
​وفي لحظة ينكسر ولا شفاء.
ما رأيكم بهذا الإنسان؟ دعوه في العبريَّة: بليعال، أي لا يساوي شيئًا. من يجسر أن يستند إليه، أو يتَّكل ويثق. الناس يهربون منه وهم على حقٍّ في ما يفعلون. إنَّه بعيد كلَّ البعد عن الأخ إسطفان الذي طوَّبته الكنيسة. كان شعاره: “الله يراني” أنا أعيش تحت نظر الله. هو يراني وأنا أراه. هو يكلِّمني وأنا أكلِّمه. هو يمشي معي وأنا أمشي معه. وكم أفرح حين أحسُّ بيده تمسك بيدي، كما الراعي يقود خرافه إلى المراعي الخصبة والمياه الهادئة.
القلب مركز العاطفة. وماذا تكون عاطفة مشوَّهة لا نعرف إن كانت تحبُّ أم أنَّها تكذب، تتملَّق، تمدُّ لسانها ولكن تحته السمّ. والقلب مركز الفهم. الأمُّ تفهم أولادها أكثر من أيِّ شخص كان. بقلبها الحبُّ تفهمه. كانوا يقولون: “لا نفهم الناس كلَّ الفهم إلاَّ بقلبنا.” والقلب مركز العلم. فمن لا قلب له يكون جبانًا، متأرجحًا، يحسب للأمور ألف حساب. أمّا صاحب القلب فينطلق ولا يهاب الصعاب. كلُّ هذا يذكِّرنا بالمزمور الأوَّل:
١ ​طوبى (هنيئًا) للرجل الذي لا يسلك في مشورة الأشرار (لا يأخذ جانبهم لأنَّهم لا يريدون الخير بل الشرّ. قلبهم فاسد).
ولا يتوقَّف في الطريق لكي يتكلَّم مع الخطأة (إن عاشر الخطأة صار مثلهم)
ولا يجلس حيث يجلس الهازئون (من الذين يعيشون بحسب وصايا الله)
٢ ​لكن في ناموس (شريعة) الربِّ مسرَّته (هو يسرّ، يفرح بأن يسير كما يريد الرب). وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً (يردِّد الوصايا وسائر التوجيهات فتنطبع في قلبه، وتردَّد على لسانه قبل أن تصبح عملاً بيديه).
مثل هذا الرجل ينجح في كلِّ ما يفعل، لأنَّه يشبه شجرة “مغروسة عند مجاري المياه” ثمرها يأتي في أوانه. ورقها يبقى دائمًا أخضر. هذه الشجرة رمز إلى الإنسان الذي يتَّقي الربّ، الصافي القلب، العائش في حضرة الله.
الخاتمة
طوبى، طوبى… هكذا بدأ الربُّ يدعونا إلى السعادة ورسم لنا الطريق الموصلة إليها. تحدَّثنا عن الذين لا يتعلَّق قلبهم بشخص أو بإنسان بحيث يصبحون عبيدًا. والودعاء اللطفاء الذين يربحون الناس فيكون تأثيرهم ناعمًا مثل الشتاء الخفيف الذي يدخل في الأرض فيجعلها خصبة، لا مثل الشتاء القاسي الذي يأخذ التراب والحجارة ويضرُّ أكثر ممّا ينفع. والعاملون من أجل السلام يشبهون ذاك الذي بمجيئه على الأرض حلّ السلام فتمجَّد الله في العلى. والأنقياء القلوب هم الذين تضع يدك في يدهم ولا تخاف أن تخسر إصبعًا من أصابعك. والسعادة للذي يجوع ويعطش إلى كلام الله والعمل بما يريد. والمضطهدون هم الشهداء الذين لا يزال ذكرهم حاضرًا في قلوبنا. تألَّموا وقتًا قصيرًا، بكوا، ولكنَّهم تميَّزوا عن الجبناء الذين خافوا على “جلدهم” فأنكروا مسيحهم. أمّا الذين قبلوا أن يخسروا العالم ويربحوا نفوسهم فهم يسيرون في رفقة الحمل ليلاً ونهارًا، فلا يعرفون بعدُ الموتَ ولا الحزن ولا الصراخ بعد أن يصير كلُّ شيء جديدًا.
(الخوري أنطوان القزي)
Share this Entry

الخوري أنطوان القزي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير