إنّ يسوع، بعد أن صامَ أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاعَ أخيرًا (متى 4 : 2). الرقم ” اربعون ” في زمن يسوع يحملُ معنىً رمزيّا غنيّا، بالنسبة إلى شعب اسرائيل. إنه يذكّرنا، أوّلا، بالسنوات الأربعين التي قضاها ذلك الشعبُ في الصحراء، وهو عرضة ً للتجربة، ولكن أيضا للتقرّب الفريد من الله. كما يذكّرنا بالأربعين يومًا التي أمضاها موسى على جبل سيناء، قبل أن يتمكّن من الحصول على كلام الله، ألواح العهد المقدّسة. ولا تغيبُ عن البال أيضا الرواية الحاخاميّة التي تقول : إنّ ابراهيم، في طريقه إلى جبل حوريب لكي يضحّي لله بابنه، لم يأكل ولم يشرب طوال أربعين يوما؛ بل كل يتغذّى من رؤية الملاك الذي كان يرافقه، ومن كلامه.
آباءنا القدّيسون، أوغلوا قليلا في شرح رمزيّة الأرقام، فرأوا في العدد ” أربعين” رقمــــــــا كونيّا، رقم العالم بمجمله: فجهات الكون الأربع تحدد كلّ شيء، والرقم ” عشرة ” هو عدد الوصايا. وإذا ضربنا العدد الكونيّ، بعدد الوصايا، نحصل على التعبير الرمزيّ لتاريخ هذا العالم بمجمله. فكأنّ يسوع يعيش من جديد مسيرة شعب اسرائيل في خروجه من مصر، كما يعيشُ ما حلّ من ضياع وبلبـــلة في التاريخ كلّه.
يقولُ انسلموس دون ليون في شرح متى 4 : ” إنّ العدد اربعين يشيرُ إلى مجمل الحياة الحاضرة، وعلى البشر الآتين من أصقاع العالم الأربعة أن يتسلّحوا بالوصايا العشر، ضدّ التجارب. وهكذا فإنّ أربعين هو نتيجة ضرب أربعة بعشرة، أو يعني العدد أربعة كلّ حركة غير جائزة للجسد، حركة ٍ تأتي من المِزاجيّات الأربعة، أي العناصـــر الأربعة التي يتكوّن منها الجسد. وعلى الوصايا العشر أن تعارض هذه الحركات؛ والعدد عشر هو مجموع ثلاثة وسبعة؛ ثلاث وصايا تخصّ الله، سبع تخصّ القريبْ. فالإنسان مصنوعٌ من النفس، وفيها ثلاث قوى، ومن الجسد المؤلّف من العناصر الأربعة.
لنلاحظُ أنّ العديد من الكتّاب يفسرون العدد أربعة بطرائق مختلفة: إنه يعني الأناجيل الأربعة؛ وبذلك، فالإنسان المتسلّح بالشريعة القديمة والجديدة يتحمّل هجمات الشيطان. وهناكَ طريقةٌ أخرى أشدّ تعقيدًا لفهم العدد ( 40)، تنطلق من واقع أنّ مجموعَ الأرقامَ التي يقسم عليها ( 20 + 10 + 8 + 5 + 4 + 2 + 1) هو 50.
يفسّر بيير لو مانجور ويقول: ” لاحظ السرّ الذي يأتي من العدد أربعين. فبحسب التفسير، يُشار من خلال الأربعين إلى الأبطال الذين يحاربون الشيطان في هذا العالم وإلى أسلحتهم. فهذا العدد هو حاصُ أربعة وعشرة. الأربعة تعني الأبطال الذين يأتون من أصقاع العالم الأربعة، والعشرة هي الأسلحة التي يحاربون بها. العدد أربعون يعني مدّة خدمة الجنديّ المسيحيّ، لأنه يرتفعُ حتى الخمسين. إذا قسّمنا العدد أربعين على كلّ أجزائه وجمعنا نتيجة الأعداد التي يُقسَم عليها، سنصلُ إلى العدد خمسين، وهذا ما نسمّيه العدد التصاعديّ، أي أنه يتزايدُ بشكل متصاعــــد. أربعون هو مدّة كفاح المسيحيّ الذي نناضل في أثنائه لنصل إلى الهدوء الذي يعنيه الرقم خمسون. إننا في معركتنا الحاليّة لا نصارع إلاّ للراحة النهائيّة، وهكذا فإنّ هذا العدد يعني الجهاد، بحيث إنه يقود إلى العدد خمسين.
نجدُ الرقم ” أربعين” في نصوص كثيرة في الكتاب المقدّس، فنستطيع أن نذكر منها:
أمطرَ الربّ 40 يومًا وليلة على الأرض لإبادة الخليقة العتيقة بالطوفان.
الشعبَ العبرانيّ بقي تائهًا في الصحراء 40 سنة قبل دخول أرض الميعاد.
يونان النبيّ وإنذار أهل نينوى بأنّ الخراب سيقعُ بعد 40 يومًا إن لم يتوبوا.
إيليا النبيّ صامَ 40 يومًا لا يأكل ولا يشرب قبل بدء رسالته.
صامَ موسى 40 يومًا ليستلمَ لوحي الشريعة من الربّ.
المدة بين القيامة وصعود المسيح 40 يومًا، والبعضُ يعتقدُ أنّ هذا هو سبب الإحتفال بذكرى الأربعين.
ملك داود على بني إسرائيل 40 يومًا.
هكذا نجدُ أنّ الرقم 40، ليس رقمًا زمنيّا بقدر ما هو رقمًا روحيّا، يدلّ على التغيير والتحوّل والإنتقال من حالة ٍ إلى أخرى، ومن حالة الموت إلى حالة القيامة مع يسوع المسيح. صام المسيح 40 يومًا يشيرُ إلى إلتزامنا بالزهد كلّ أيّام غربتنا، لكي نحيا في حياة مطوّبة كاملة وتكونُ لنا معرفة صادقة نحو الله وخليقته.