Pixabay CC0 creative commons

ما العمل كي نجد الحقيقة؟

الحلقة الثالثة عشرة من سلسلة مقالات الحرية

Share this Entry

الحقيقة. ما المقصود بها؟ هذا السؤال يطرحه أفلاطون فيقول: ” ما العملُ كي نجدُ الحقيقة؟ في كتابه بارمينيدُس، ويأتي جوابه فيقول: كُن مرنا، إعمل فتحة ً في فكرك، أخرج من الأنا، وبهذا الفكر الكامل ستتقدّم لإستقبال الخبـــــرة (سنراها الآن)، لأنّ الحقيقة ليست فينا صدفة ً عرضـًا، أو هي إضافة. فإذا كان فكــــــرنا قادرًا على إكتشاف وفهم ما هو موجود، فذلك لأنه هو الحقيقة، وفي رغبته بالمعرفة يذهبُ نحو العالم لكنّ موقفه ليس رضوخا وخنوعًا، إنّما إستقبالا لمعطيات فيها طابعٌ مفهوم وهذا نسمّيه ” خبرة“. إنّ أمام الوعي فينا مساران:

خروجٌ من ذاتنا، والذهابُ نحو الأشياء، ثمّ عودةٌ من المشهد الذي تعطيه الأشياء، فنتحوّل للعمل الواعي، فنفهمُ الأشياءَ ونجعلها جزءًا منا وملكا لنا. نذهبُ من الخارج إلى الداخل، ولكنّ هذا الداخل ليس منطقة لجوء ٍ ففيه يقظةً وإنتباه على الأمور، فوجود الأشياء يكون ظاهريّا في البداية، وما هو موضوعيّ يصبح باطنيّا، والباطـــنيّة تصبحُ خلاقة. فنصير حاضرين للعالم ونبحثُ عن المعرفة بموضوعية وعلميّة، فيبدو العلم حينئذ لا فقط بحـــــثا عن مشاكل الطبيعة ومسائلها، ولكن هذه الطبيعة ستُعلّمنا ما هو الفكر البشريّ.

هكذا، يمكنُ القول، إنّ الــــخبرة أوّلا هي واسطة وأداة بحث وحوار الفكر مع الطبيعة، وثمّ هي، بناءٌ لموضوعيّة علميّة، وهذا يتطلّب جهدًا وعملا دؤوبًا من خلالها يجبُ أن نفصل الذات عن الموضوع، وهذا قد لا نصل إليه أبدًاـ، إذ كيفَ يمكننا حلّ الرابط بين هذا وذاك دون رفض لغط  سيظهرُ بالخبرة بين ما هو موجودٌ وما ينبغي أن نقومَ ببنائه؟

الخبرةُ إذن هي عطيّة مجانيّة، لكنــــــّها تقاوم ولا تستسلمُ بسهولة. وفيها أمورٌ غير متوقّعة أبدًا ( يقال: اسأل مُجرّب ولا تسأل حكيم). لكن، الفكر يحاول أن يضع نفسه في داخل الأشياء، وكما رأينا من مسار التفكير في حلقاتنا السابقة، المعرفةُ تذهبُ نحو المعطيات، تلقفــــها، وتفكر فيها وتتصارعُ ضد الخطأ، وترفض ما هو آنيّ، كما ترفضُ اللغط والذاتيّة والنسبيّة والتسرّع، وهكذا تصبح الحقيقة الموضوعيّة إنتصارًا على الخطأ وعلى الإنحراف. وكما قالَ غاستون باشلار: ” لا يوجد حقيقة أولويّة، فهناكَ دائمًا أخطاءٌ في البدايات“، خيرُ مثال على ذلك، الإختراعات، حيث السابق يلغي اللاحق.

الخبرةُ إذن، هي ما يحرّرنا من ضيقا الأفق، ومن الغرابة، كيف؟

عندما نذهبُ إلى العالم، ونفعلُ بحسب ما قال الفيلسوف سارتر  : ” عندما يتفتّـــق وعيُنا ويتوزّع كالرمــانة في أرجاء العالم، نصبح مستقبلينَ للأشياء، فتعطينا، في الوقت عينه، إمكانيّة دخول في أعماقنا، وعندما نفكّر في الحقيقة نبحثُ عن علاقة هذه الحقيقة بنا،  لكنها ليست حقيقة ذاتيّة، لذا لا نقولُ إن لكلّ منا حقيقته، لكنها حقيقة شاملة، كـــحقيقة القيم”. كتبَ بيران يقول :” عندما نحــفر في الحقيقة لندخلَ فيها، هي أيضا تحفر فينا لتستولي على أرواحنا”.

لكن، كيف يمكنُ بلوغ ما هو عام وشامل؟

 إذا ما تحرّرنا من ضيق الأفق، وغرابة الفرد فينا_ فطبيعتنا هي الخروج من الذات. لاشلييه، طـــُرِح عليه سؤالا: ما هو الشخص؟  فأجاب: الشخص، هو الذي يستطيعُ الخروج، أي يخرجُ من ذاته ليعرفَ الحقّ ويمحص فكره في العموم، ويُعيدُ النظر في إندفاعه البسيط نحو القيم التي تسيره وتقوده، لأن فينا جميعًا إستقامة داخليّة تجعلنا قادرين على أن نضيء الخبرة الآنيّة. وكتب غابرييل باسكال يقول: “علينا أن نفهمَ بأنّ العامّ موجودٌ في الأعماق وهو ليس في الإمتداد الأفقيّ“. علينا إذن أن نفهمَ، أنّ العامّ ( والشكل العام للحقيقة) الذي نبحث عنه، لا يمكن بلوغه بالتنقيبْ أو بإستعراض جوانب الحقيقة المتنوّعة، ولكن يتمّ ذلك بــ  التفكير الإنعكاسي، وليس بتراكم المعارف بشأن الناس، فهذه لا تساعدنا على فهم ما هو الإنسان، ولكن إذا تذوّقنا واكتشفنا ما هو سبب حضور الإنسان في العالم، وحضوره لذاته، عندئذ سيشكل حضوره لذاته فكرًا، وذلك من خلال علاقته بالحقيقة، أي من خلال تأكيــــد فاعــــل للحقيقة ولما هو صحــيحٌ.

كلّ هذه الفقرات، وما يليها، هي شروحات ٍ انثروبولوجيّة فلسفيّة، ليست لاهوتيّة بحتة مطلـــقا، لأننا سنتطرق لاحقا لمعنى الحريّة من الناحية اللاهوتيّة والمسيحيّة، وربطها بحريّة يسوع. إن هذه الفقرات هي ، كما ذكر سابقا، تنشيطٌ للفكر وللعقل، ولعمل مرونةٌ فيهما لكي لا يقفا على عتبة البابْ بل يسيران معًا نحو فهم معاني الوجودو العالم والحياة والإنسان، وفهم الحريّة والقيم.

يتبعْ : ما هو الإنسان؟ لماذا الحريّة؟؟

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير