ممالك الأرض … يقول أوريجانوس: ما بيّنه إبليس ليسوع هو أنه كان يحُكم العالم. لا نظنّنّ أنّ إبليسَ أراه مملكة الفرس ومملكة الهنود، بل ” أراه ممالك العالم” ، أي ” مملكته ” ، وكيف يتصرّف بها. ويقولُ القديس كيرلّس الإسكندريّ: إنّ الممالك التي سيطرَ عليها إبليس بالحيـــــلة، يُعيدها يسوع الآن. هل ظننتَ أنه سيعبُدك ذاكَ الذي ترتعدُ منه الأشياءَ كلّها، فيما تُسبّحُ مجده الساروفيم وكل القوّات الملائكيّة؟ مكتوبٌ ” للربّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد”. ذكرَ هذه الآية لتُدمي قلبه. إبليس، قبل مجيئه، خدعَ كلّ ما تحت السماء، وكان معبودًا في كلّ مكان، لكنّ شريعة الله أبعدتهُ عن سيادة اغتصبها بالحيلــة، وأمرَتِ الناسَ أن يعبدوا من هو بطبيعته إلهٌ حقٌّ، وأن يخدموه وحده. وضع الإنجيليّ لوقا تجربة يسوع الثانية حول ممالك الأرض والعالم، التي هي الثالثة عند متّى. والتجربة الثالثة عند لوقا هي حول” شرفة الهيكل“.
ويقولُ هيلاريون، حاولَ إبليسُ أنْ يُجرّب الربّ ليُنزله من علُ ويهينه. وضعهُ على شرفة الهيكل، وكأنه يعلو على الشريعة والأنبياء. عرفَ أنّ الملائكة أخذوا لخدمة ابن الله أهبة ً واحتفّوا بهِ، لئلاّ تصطدمَ بحجر ٍ رجله، وعرفَ أنه يطأ الصلّ والأفعى ويدوسُ الأسد والتنين (مز 91 : 13). أمّا بشأن الحاجــــــات الدنيا التي يستخفّ بها، فقد بقيَ إبليسُ صامــــــــتا، لكن بذكره الأمور العُليا أرادَ أن يجعلَ من يُجرّبه خاضعًا له، راجيا أن يسمعَ صدى مجده في تعبير ربّ الجلالة عن الثقة به.
ويقولُ أيضا القدّيس جيروم : كيفَ أساءَ إبليسُ تفسير الكتاب المقدّس؟ ” ألقِ بنفسكَ إلى الأسفل”! هذا صوتُ إبليس، الذي عبره يشاءُ سقوط الجميع. يقول: ” ألقِ بنفسك “. إنه قادرٌ على الإقناع، لكنّه عاجزٌ عن إلقاءِ أيّ أمرئٍ إلى الأسفل. ” يوصي ملائكته بك، فيحملونك على أيديهم، لئلا تصطدمَ بحجر ٍ رجلك”. يقول جيروم: إنّ المزمور المشار إليه 91 ، يقولُ إنّ هذه النبوءة لم تكن عن المسيح، بل عن إنسان قدّيس. إذا، إبليس هو مفسّر ردئ للكتاب المقدّس. ويستطيعُ أن يُدخِل الناس أيضا في رداءة التفسير !
هذه التجربة تكشف لنا شيئا من واقعنا اليوميّ. نرى كثيرًا من الناس اليوم يعملون بمبدإ ” إلعبْ بحياتكَ، غامرْ، جرّب، تظاهَر”! وسترى. يسوع يقولُ لنا العكس: لا تلعب بحياتك. إنها تجربةُ المظاهر الخدّاعة والحيل والتباهي أمام العالم كي يرانا أقوياء أعزّاءَ! إذن، يتبيّن من هذه التجربة، إنّ المسيح هو عاقلٌ، وإبليس هو مجنون.
يقولُ البابا بنديكتوس السادس عشر، إنّ هذه التجربة الثانية، هي الأصعبُ ، من وجوه مختلفة، على الفهم في ما تعنيه كمثال لنا. إنها أشبه ما تكونُ برؤية تختصرُ حقيقة وتهديدًا فريدًا للإنسان ولرسالة يسوع. لأوّل وهلة تتبادرُ إلى ذهننا فكرة ً تحيّرنا. فلكي يجذب الشيطان يسوع إلى شركه، يستشهدُ بآية ٍ(ذكرناها أعلاه) من العهد القديم من المزمور 91، الذي يشيرُ إلى حمـــــاية الله للإنسان الأمين : ” أوصى ملائكته بك ليحفظوكَ في جميع طرقك. على أيديهم يحملونك لئلا تصطدمُ بحجر ٍ رجلك (مزمور 91 : 12). تكتسب هذه الكلمات أهميّة أكبر، كونها قيلت في المدينة المقدّسة، في المكان المقدّس (الهيكل)، (الذي يُعتَبر عند اليهود بمثابة (الديانة)). فالمزمورُ المشار إليه مرتبطٌ بالهيكل، والذي يتلوه ينتظر الحصول على حماية في الهيكل، لأنّ بيت الله يجبُ أن يكون مكانا فريدًا للحمايــــــة الإلهيّة. في أيّ مكان آخر ينبغي لمن يؤمن بالله أن يُحِسّ بالأمان، أكثر ممّا لو كانَ في الحرم المقدّس. ويعطينا البابا مثالاً جميلاً، أو بالأحرى، يتطرّق إلى حوار ٍ بين خبيرين في الكتاب المقدس، حتى لكأنّ الشيطان لاهوتيُّ، كما يشيرُ إليه ” يواكيم غنيلكا”. لقد عالج فلاديمير سولوفياف هذا الموضوع في رواية بعنوان ” رواية قصيرة عن المسيح الدجّال”. إذا كان قلبُ الإنسان هو مسرحُ الصراع بين الخير والشرّ- كما أكّد دوستيوفسكي ( الذي هو صديق فلاديمير- وهم كتّاب روسيّون من القرن التاسع عشر)،- فالتاريخ هو مسرحُ الصراع بين حقيقة الخلاص وتحريف معناه، بين ما يأتي بملكوت الله ( الإخلاص للمسيح)، وما يُعارضه (إستبدال مسيح مزيّف بالمسيح الحقّ). هذا هو، نستطيع القول، محورُ رواية فلاديمير عن المسيح الدجّال.
إنّ الفردَ لا يستطيع أن يدركَ عمق هذا الصراع. ورهافةُ التمييز تتعدّى كلّ تبيسط ثنائيّ. قد يسهل التمييز بين الخير والشرّ. ولكن، كيفَ تميــــّز المسيحانيّة الكاذبة عندما تظهر بشكل الخير؟ فالخلاصُ يمرّ إذا بمحــــنة الإيمان. وإستبدالُ أفكار مثالية ( الخير، التقدّم، السلام، الوحدة) – مهما كانت جيّدة – بالإيمان (قيمة العلاقة بالمسيح)، يُفشِل مهمّة المسيح، ويُظهِر تفضيل البشريّة المسيحَ الدجــــــــّال. فالتمييز لا يتعلّق بقيم الملكوت مباشرة ً، بل بهـــوية الملك الآتي. فشخص المخلّص هو موضوع التمييز، موضوع الوحي، موضوع القرار. ومحنةُ التجربة تنال من هويّة المسيح: رجل خارق أم ابن مطيع الآب السماوي؟. المسيح الدجّال يجسّد الرجل الخارق الذي قَبِل التجارب، وأظهرَ بذلك قوّة الشرّ عندما يظهر بشكل الخير.
المسيحُ الدجّال، في رواية فلا ديمير، هو ملفانٌ دكتور في اللاهوت من جامعة توبنغن، وخبيرٌ كبير بالتوراة. هكذا أراد سولوفياف أن يعبّر بطريقة ٍ جذريّة عن شكوكيّته تجاه بعض أنواع التفسير الكتابيّ المتعمّقة في زمانه. إنّ التوراة في أيّامنا تخضعُ عند كثيرين لقياس ما يُسمّى النظرة العصريّة إلى العالم، وقوامُها العقائديّ الأساسيّ أنّ الله لا يستطيعُ مطلقـــــًا أن يعملَ في التاريخ، أنّ كلّ ما يتعلّق به، بالنتيجة، هو وليد استنتاج ٍ شخصيّ. وهكذا، فالتوراة لا تعود تتكلّم على الله، على الإله الحيّ؛ بل نحن فقط من نفعل، ونحدّد ما يستطيع الله فعله، أو ما نريد أن يكون. ويقولُ لنا المسيح الدجّال عندئذ، قد بدا ملفــــــانا متعمّقا: إنّ قراءة التوراة من زاوية الإيمان بالله الحيّ والإصغاء له هي قراءة أصوليّة؛ وهو يريدُ أن يقنعنا بأنّ قراءته هو، القراءة التي يدّعي أنها القراءة العلميّة الأصيلة، تلك التي يغيبُ عنها كلام الله وليس له فيها ما يقوله، بها تبدأ طريق التقدّم والإزدهارْ.
أن يوضع الله ” تحت الإختبار “، هذه هي التجربة الكبيرة. إنطلاقا من مشهد الهيكل هذا، ينفتحُ النظر بالموازاة على الصليبْ. فالمسيح لم يرم بنفسه من أعلى الهيكل، ولم يقفز إلى الهاوية، ولم يُخضِع الله للإختبار، بل نزلَ إلى هوّة الموت، إلى ليل التخلّي، أسلم ذاته ككائن لا دفاعَ له، أقدمَ على ذلك تعبيرًا عن حبّ الله للبشر. وكان يعلمُ، إذّاك، أنه بسقوطه، لن يقع أخيرًا إلاّ بين يدي عطف الآب. ويُظهر بذلك، الثقة الكاملة بالله، والعطف والثبات، وتحقيق المشيئة.