إذا أردنا تعريف مصطلح العزلة الاجتماعية بشكل مبسط سنجد أنه يجمع بين متناقضين فكلمة العزلة تعني الابتعاد عن الآخر بينما الاجتماعي تعني الارتباط بالآخر وهذا ما يسمى (OXYMORON) أي تناقض المفردات.
ولكن كيف ينظر المرء إلى العزلة الاجتماعية، وهل فكرت بالعزلة الاجتماعية من منظور إيجابي؟ أعتقد أن معظمنا لا يفعل ذلك، فكلمة العزلة لا تبدو ممتعة للكثيرين منا، لأن الإنسان بطبيعته البشرية يحتاج إلى إنشاء روابط حميمة مع أشخاص آخرين، بحاجة إلى أن يكون هناك شخص ما يثق به، بحاجة إلى الشعور بالانتماء وإلى أُناس يعتمد عليهم، وبالتالي فإن عدد قليل منا يعتقد أن العزلة يمكن أن تكون شيئًا إيجابيًا في الحياة، فما رأيك؟ هل يمكن أن تتحول العزلة إلى شيء إيجابي؟
صحيح أننا كائنات اجتماعية ونحتاج إلى الآخرين، لكن كي نفهم الآخرين، علينا أن نفهم أنفسنا أولاً، وبغض النظر عن مدى نجاحنا اجتماعياً فجميعنا نمر بمرحلة العزلة في فترة ما من حياتنا، لأنها جزء من الحالة الإنسانية التي نلجأ إليها لاكتشاف ذواتنا بشكل أفضل، فأعظم وأهم مغامرة في حياتنا هي اكتشاف من نحن حقاً، ومع ذلك، فإن الكثيرين منا لا يصغون إلى دواخلهم، ويستمرون في ذلك دون طرح السؤال الأكثر أهمية: من أنا حقاً؟
قد يبدو البحث عن نفسك وكأنه هدف ذاتي المنحى، ولكنه في الواقع عملية غير أنانية فهي أساس كل ما نفعله في الحياة، من أجل أن نكون الشخص الأفضل الذي نريد ويريده من حولنا أيضاً، (الشريك الأفضل، الوالد الأفضل، الصديق الأفضل… وما إلى ذلك)، في الواقع إن كل شخص منا يحتاج لمثل هذه الرحلة الشخصية للتخلص من أمور لا تخدمنا في حياتنا ولا تعكس من نحن حقاً، إنه أمر نسعى نحوه بشغف وفضول، يقول فونغ في نظرية إدراك الذات “عندما تأتيك تلك اللحظات، لا تقاوم. تقبلها كما هي. اسمح لها بالخروج بهدوء وبصدق ولا تقاومها. يجب ألا يكون وقت عزلتك شيئاً تخاف منه”.
فالعزلة يمكن أن تأخذنا من وتيرة الحياة المحمومة إلى مرحلة من التأمل والتفكير وتساعدنا على توجيه حياتنا في اتجاه إيجابي من خلال تعزيز نطاق التفكير والوعي الذاتي والتفرد والإبداع، لذلك نرى أن البعض وبشكلٍ خاص الأشخاص الأكثر ذكاءً، يستمتعون بلحظات العزلة، فهم يعيشون عزلتهم بسعادة في الإصغاء إلى صوت الله، صوت الضمير، صوت الطبيعة وصوت الآخر، لأن لحظات العزلة -حتى الصغيرة منها- يمكن أن يكون لها تأثيرات عميقة على إنتاجيتنا وتفكيرنا الإبداعي، فهي بداية الطريق لاكتشاف الذات والابتعاد ولو قليلاً عن صخب المجتمع، وهي الوسيلة لإعادة التركيز والانطلاق إلى العالم بإيجابية من جديد، إذا استطعنا استغلال هذه اللحظات في إعادة تقييم الذات وتثقيفها. كما يقول ماثيو بوكر، أستاذ العلوم السياسية والفلسفة والتواصل بين الثقافات في جامعة مديل عن العزلة، “إنها عملية داخلية أكثر عمقاً، فالعزلة المثمرة تتطلب استكشافاً داخلياً، وهو نوع من الجهد الذي قد لا يكون مريحاً، وربما يكون مؤلماً”.
فما الذي يجعل من لحظات العزلة مغامرة مثمرة:
- قضاء الوقت بمفردنا يمنحنا مساحة للتفكير تساعدنا على الدخول إلى أعماق ذواتنا، للتعرف عليها، والتواصل مع أنفسنا، وهو أمر ضروري لنمونا الشخصي، ولكننا نجد أن الكثير من الأشخاص لا يستطيعون قضاء الوقت بمفردهم أو الإحساس بالسعادة بمفردهم، علينا أن نعي تماماً أنه لا يمكننا الاعتماد على الآخرين لنكون سعداء، بل يجب أن نكون مسؤولين عن سعادتنا الخاصة، لذلك نرى أن بعض اللحظات من العزلة تسمح لنا بمعرفة ما نريد القيام به في حياتنا، وما هي أهدافنا، وما نحب، وما لا نحب، وما نحتاج.
- قضاء الوقت بمفردنا يمكن أن يكون مفتاحاً لتطوير الأفكار الإبداعية، لأنه يمكننا أن ندع عقولنا تتجول بحرية أكبر عندئذٍ، حيث يبدو أن الوقت بعيداً عن الآخرين يجعلنا أكثر قدرة على الحصول على أفكار مبتكرة وأكثر إبداعاً، ونصبح أكثر قدرة على الاستماع إلى أنفسنا، يعتقد علماء النفس أن سبب ذلك يعود إلى أن الوقت الذي يقضيه الشخص وحده يفصله جسديًا عن أحكام وأفعال الآخرين مما يحفز التفكير الإبداعي لديه.
نحن بحاجة حقاً إلى الآخرين، ولكن هناك حاجة إلى قدر معين من العزلة، كتب توماس ميرتون في كتابه خواطر في العزلة “لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلاً” فالعزلة الطوعية والمثمرة هي جانب إيجابي من الحياة يحمل دلالات إيجابية كالتأمل ومراجعة الذات، لذلك نحن بحاجة إلى قضاء بعض الوقت مع أنفسنا، لكننا نخشى أن نكون وحدنا لأننا نشعر بالضعف والتخلي، ونعتقد أننا بحاجة إلى الآخرين، وأن الآخرين يكملونا، وعليهم أن يعتنوا بنا، قد نعتقد أن فكرة أن نكون وحدنا ليست كافية، وأننا غير قادرين على القيام بأشياء معينة، ونحتاج إلى الآخرين للقيام بها نيابة عنا، لكن لا شيء من هذا صحيح، فإذا كنا نتحمل المسؤولية الكاملة عن أنفسنا، ونثمّن أنفسنا، ونستمع إلى أنفسنا، ونعتني بأنفسنا جسديًا وعاطفيًا وروحيًا، فإننا أقل عرضة للخوف من العزلة.