أيّامٌ مميّزة هي، أيّام الاسبوع العظيم، أو الكبير. لا بل وأكثرَ من ذلك، إنها أيّامُ خلاصنا وظهور الله في عالمنا، وإتّحاده بنا وبآلامنا ومشاركتنا في كل شيء. لا بدّ أن نتكلّم عن سرّ خلاصنا الكبير، الذي هو ” سرّ الصليبْ “، هذا الحقّ الصريح الذي كشفه لنا الربّ يسوع ” الابن الحبيب المتّحد بالله الآب”، بموته على الصليب وطاعته الكاملة للآب. هذه بعض الأجزاء التي لا بدّ لنا من وضعها في هذه الأيّام المباركة والمهمّة في حياتنا المسيحيّة وفي إيماننا المسيحيّ ككلّ.
منذ أيّام العهد الجديد، يُعّدّ الصليب علامة الخلاص المميّزة. ونحن منذ معموديّتنا، نوسَم بإشارة الصليب؛ في إشارةالصليب ننالُ بإستمرار بركة الله، وتلك الإشارة عينها نرسمها على جِباهِنا. الصليب هو الرمزُ المسيحيّ المميّز (سنتوسّع أكثر الان في سرّ الصليب وعلامته) الذي نرفعه على وجه الملإ وفي حياتنا الخاصّة. ذلك أنّ التسليمَ لله، الذي بدأ في تجسّد يسوع المسيح وفي ميلاده من مريم العذراء، قد بلغ ذروته في الصليبْ. لذلك، فكلمة الصليب هي، في نظر بولس الرسول، موجَز البشارة المسيحيّة بأجمعها. إذ لا يريدُ بولس أن ” يعرفَ إلاّ يسوع المسيح، وإيــّاه مصلوبــــًا ” (1 كورنتوس 2 : 2). يقول الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ في كتاب ” مدخل إلى رسائل القديس بولس ص51 : ” الصليب يستقي معناه، بل وفاعليّته ممّا يتبعه من قوة وانتصار ومجد، من حياة وقيامة. فعندما يتحدّث بولس الرسول عن الصليب أو الآلام أو الموت، يتحدّث أيضا عن الحياة والقيامة والمجد… “.
يقول استاذ اللاهوت العقائدي فولفانغ بينارت في كتابه ( المسيحيّة) ص7 – 8 : ” …. الصليب المسيحيّ يعني في الأصل في عالم التسامي محورَ العالم. وبالنسبة إلى الرومانيّين، فكلّ استيطان كان تجسيدًا للكون؛ إذ يجعل الأحياء السكنيّة يخرقها شارع يتّجه من الشرق إلى الغرب وشارع رئيسيّ من الشمال إلى الجنوب، ويتقاطعُ الشارعان بشكل زاوية قائمة. والمسيحيّونَ أيضا لا ينسونَ تمامًا هذه الرمزيّة الكونيّة. فهي قائمةٌ في خلفيّة اعتراف بولس الرسول، بأنّ المسيح قد صُلِب للعالم والعالم صُلِب له (غلاطيــة 6 : 14). وبالنسبة إلى إيرونيموس، أحد آباء الكنيسة، فالصليبُ يرمزُ إلى شكل العالم المربّع الزوايا. ويتضمن مبدئيّا شموليــــــة لا حدّ لها، وهو بسبب ذلك أيضا علامة دينيّة مناسبة، على غِرار الهلال والنجمة، اللذين يقصدان ربط الكون فيهما. وتقوى أحيانا هذه الفكرة من خلال رسمة في دائرة تذكــــّر بقرض الشمس. هذا الصليبْ المربّع الأشعّة في شكل خاتم أو دائرة، نصادف إستعماله في آسيّة وعند الشعوب الجرمانيّة، وقد حُفِظَ في بلدان هذه الشعوب بصورة خاصّة في بعض صلبان الإنتصار على الجزيرة السويديّة غوتلند وأجملها في كنيسة أويا (النصف الثاني من القرن الثالث عشر)”.
يضيف أيضا بينارت : ” ولكنه يتجاوز الإمكانات الكونيّة للرموز الأخرى في ناحيتين. فهو أوّلا رسمٌ لإنفتاح الإنسان على الله، في مختلف أشكال وطرقه. فعندما يتخلّى عن ذاته يفتحُ يديه ويرفعها راسمًا شكلَ صليبْ: وهكذا في كلّ معانقــــة ٍ، في الألم الشديد، وفي اليأس، وفي الإلتجاء إلى الله.
ما هو الصليبْ؟
يقول جان فرانسوا بودوز ويسأل : ” هل هو أداة إعدام ٍ لموت ٍ شنيع؟ هل هو لاهوت؟ على كلّ حال، المسألة هي مـــفارقة حقّا. فاليوم كما في الأمس، بحسب بولس، المسيحُ المصلوب ” عثارٌ لليهود وحماقة للوثنيّين ” ( 1 كورنتوس 1 : 23). لكنّ بولس يصفُ في موضع ٍ آخر حدث الصليب والقيامة بأنه بشرى للجميع، ” إنجيل “. إنّ خطابًا كهذا يثيرُ التفكيرَ ويحرّكه”.
إنّ سرّ الصليبْ هو في الواقع محور الإيمان المسيحيّ الأساسيّ، ولذلك فهو موضوعُ تفكير عميق في روايات العهد الجديد. إنّ ” لاهوت الصليبْ” هذا يُفهَم مرارًا على أنه موضوع قدوة غايته تشجيع المسيحيين على تحمّل آلامهم بصبر ٍ شديد. ربّما لتقديم ” الكلام على الصليبْ” هذا فوائده. ولكن علينا أن ندركَ تمامًا أنّ الصليب واقعٌ قبل أن يكون لاهوتــــــــــــــــًا. أي، أنه لم يكن للصليب قيمة رمزيّة أو مجازيّة في نظر المسيحيّة الآولى، بل كان يمثـــّل واقعا يصدمُ مرسلي الإنجيل كما مستمعيهم. ” تحمّل الصليب مستخفّا بالعار ” ( عبرانيين 12 : 2). تنضمّ الرسالة إلى العبرانيين هنا إلى رسالة بولس الآولى إلى أهل كورنتوس ” عثارٌ لليهود وحماقةٌ للوثنيين ” (1 كورنتوس 1 : 23). فكرازةُ الصليب تصطدمُ بواقع ٍ من أشدّ الوقائع صدمًا، لأنها تؤكّد أنّ مَن ماتَ بخزي ٍ على الخشبة هو ابن الله أيضا. هذه هي النقطة الحاسمةُ في الإيمان المسيحيّ. بتعبير ٍ آخر، ما كان للغة الصليب أن توجَد إنْ لم يوجَد أوّلا الصليب الحقيقيّ الملموس والتاريخيّ الذي ماتَ عليه يسوع الناصريّ.
إستعمالُ الصليب
استعملَ الفرس وشعوب بربريّة أخرى عذاب الصليب، ولعلّه انتقل من عندهم إلى رومة عبر قرطاجة من خلال الحروب التأديبيّة( القرن الثالث قبل الميلاد). على كلّ حال، يذكره الكاتب بلوت Plaute (250 – 184) في عدّة مسرحيّات له (الصندوق، الجنديّ المتشدّق، الدسائس …). ولاحقا، يصفهُ شيشرون (حوالى 70 قبل الميلاد) بأنه ” أوحش إعدام ٍ يعاقب العبيد به، والأشدّ عارًا “.
أصل الصليبْ هو عقابٌ من النوع السياسيّ يُعاقَبُ به القادة العسكريّون المهزومون ومثيرو البلبلة أو الذين يحضّرون للثورة. ويُستعَمل أيضا في حالة الثورة العارمة، كما حدث في قمع تمرّد العبيد بقيادة سبارتاكوس بجنوب إيطاليا في السنة 71 ق.م، وكما حدث في أثناء إحتلال أورشليم في السنة 70 ميلاديّة؛ ويروي فيلافيوس يوسيفوس كيفَ صُلِب يهودٌ بأعداد ٍ كثيرة وهم يحاولون الخروج من المدينة. ويشيرُ إلى أنّ ” آلامهم بدت لطيطس مثيرة للشفقـــــة”. لم يُعتَبر الثائرون هنا، كما في مكان ٍ آخر، ” أعداء ” بل أشرارًا . وكان حكّام الأقاليم الرومانيّة يتمتّعون بسلطة التأديب التي تسمحُ لهم بإتّخاذ جميع الإجراءات التي يرونها ضروريّة للحفاظ على النظام العامّ.
بيد أنّ الصليب ظلّ، في نظر الرومان، عقاب الأجانب والعبيد. فبعد شيشرون بكثير، في حوالى السنة 110 ميلاديّة، كانت كلمة عقاب العبيد مرادفة لكلمة ” صلب “. ” فعوقب على تعسّفه في السلطة بعقاب ٍ العبيد ” (Annales, IV,11,3) . وبحسب الكاتب نفسه، كان في روما ” مكانٌ خاصّ للعقوبات الخاصة بالعبيد ” ( Annales, XV,60,1)، ويمكننا الإعتقاد أنّ الأمرَ نفسه في كلّ المدن الكبيرة بالأقاليم الرومانيّة، بما فيها أورشليم. وشملَ الإمبراطور غالبا Galba في السنة 69 ميلاديّة كلّ المواطنين الأدنى (Humilioes) بعقوبة الصلب. وفي عهد الإمبراطور أدريانوس ( امبراطور من 117 إلى 138)، صدرت قوانين تنظّم إستعمال الصليب، فلا يُعاقَب أحدٌ بالصلب بدون حكم محكمة.
يتبع : أداةَ إعدام