“كما رفع موسى الحيّة في البريّة فكذلك يجب أن يُرفع ابن الإنسان لتكون به الحياة الأبديّة لكلّ مؤمن” (يو 3: 14-15). كلمات قالها السيّد المسيح لنيقوديمس. ويؤكّد يسوع على فحوى تلك الكلمات قائلاً: “وأنا إذا رُفعتُ من الأرض جذبتُ إليَّ الناس أجمعين. قال ذلك مشيرًا إلى الميتة التي سيموتها” (يو 12: 32-33). “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم” (يو 1: 29). نعم، مات المخلّص على الصّليب فوق الجلجلة يوم الجمعة العظيمة. هل مات الخلاص معه؟ هل انتهت مسيرة التحرّر والانطلاق نحو الآب؟ لقد مات خالق الحياة وكلّ ما فيها. انتهى المَلِك الذي دخل أورشليم بالصّيحات والمجد. عُلِّقَ على خشبة مكلّلاً بالشوك، ملطخًا بالدّماء، حاملاً آلامًا وجراحات. لا توصف حالة ذلك المَلِك المخلِّص المعلَّق على الصّليب. ولكن من أجل مَن مات؟
هذا اليوم العظيم، يدفعنا إلى أن نحييه بالصّوم والصّلاة والتأمّل والحزن، أيّ بالإيمان والتقوى والخشوع والرهبة، لأنّ ابن الله مات من أجلنا كفّارةً عن خطايانا. تدعونا الكنيسة لعيش وإحياء يوم الجمعة (المعروف بالحدث التاريخيّ)، بالأعمال الليتورجيّة المقدّسة، التي تعطينا حقّ المشاركة في موت وقيامة السيّد المسيح. فلنعش هذا اليوم بأبعاده ومعانيه الإنسانيّة واللاهوتيّة والروحيّة. إنّ تلك المشاركة الفعّالة، تؤكّد على إيماننا بأنّ ملك المجد مات ومن ثمّ انتصر على الموت بالموت. وبما أنّه مات من أجلنا، فهذا يعني سننتصر بفضل نعمته وقوّته ومحبّته، على ضعفنا وخطايانا.
إنّ موت المخلّص على الصّليب حقيقة، تمّت من أجل خلاص الإنسان، وقيامة المائت على الصّليب، هي حقائق إيمانيّة عقائديّة لاهوتيّة مقدّسة لا يمكن أن ينكرها أيّ معمّد (مؤمن) أو ينكر قوّة الصّليب المقدّس الذي عُلِّقَ عليه خلاص العالم وفداء البشريّة كافة، المدعوّة إلى الدخول في مسيرة الفداء والخلاص بيسوع المسيح. نعم، نقول بصوتٍ واحدٍ، وبإيمانٍ راسخٍ وعميق “نسجد لكَ أيّها المسيح ونبارككَ، لأنّكَ بصليبكَ المقدّس خلّصتَ العالم”.
ألا نصلب مخلّصنا يسوع المسيح كلّ مرّةٍ نبتعد فيها عنه ونقترف أشنع الخطايا والرذائل؟ ألا نصلبه من جديد، عندما نعيش بالقنوط واليأس والضجر وعدم الرجاء؟ ألا نصلبه من جديد، عندما نرفض نعمه وعطاياه ومحبّته ورحمته؟ ألا نخجل من أنفسنا لِما سبّبناه للمخلّص من عذاب وموت؟
يوم الجمعة العظيمة أو “الحزينة” هو يوم منتهى الحبّ الذي فيه ضحّى مَلِكُ المجد بنفسه. نعم، هكذا خلّص المخلّص البشريّة، بالفداء والتضحية. المحبّة تُختبَر بالألم والعطاء والبذل. في يوم الصّلب بَذَلَ السيّد المسيح نفسه على الصّليب وقدّم ذاته ذبيحة من أجل الإنسان. “هكذا أحبّ الله العالم، فبذل ابنه الوحيد” (يو 3: 17). “إنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم، وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين” (مر 10: 45).
لنتعلّم من هذا اليوم العظيم أن نحبّ وأن نبذل من خلال نكران الذات، لكي نحصل على الخلاص من سيّد الخلاص المائت والقائم من بين الأموات.
نعم، نعلن ونشهد بأنّ المسيح مخلّصنا، جاء وتألّم عنّا، لكي بآلامه يخلّصنا. فهل نحن أوفياء للمخلّص؟ ألسنا بحاجة إلى أن تكون نفوسنا مضيئة لكي ترى محبّة الربّ لنا؟
نعم، أسّس المخلّص مملكته على الصّليب وكان وما زال أكثر جمالاً وإجلالاً من كلّ أصحاب التيجان “الربّ قد مَلكَ ولبسَ الجلال (البهاء)” (مز 192).
نعم، المسيح، من على الصّليب، بالموت داسَ الموت، وخلّصنا من حكم الموت، ووهبنا الحياة، فصرنا له.
لنُحيي هذا اليوم العظيم فيحيينا.
الأب د. نجيب بعقليني
أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة
رئيس جمعيّة عدل ورحمة