“فإنّ لغة الصليب حماقةٌ عند الذين في سبيل الهلاك، وأمّا عند الذين في سبيل الخلاص، أي عندنا، فهي قدرة الله” (1 كورنتوس 1 : 18). أمامَ جدال القورنثيّين، وغباءَ ادّعاءات الحكمة وقدرة الخطاب، ينصب بولس صليب المسيح، أداة آلامه وموته. لكنّ الإشارة ليست أوّلا إلى العذاب الذي ناله يسوع؛ فالحدث التاريخيّ يظلّ خلفيّة. ولكي يقدّم بولس الصليب إلى مستــــمعيه اليونانيّين الشغوفين بالمعرفة والخــطابة، يصيغُ تعبيرًا يرتبطُ بادّعاء اليونانيّين الخطابــــــــة ويحوّله ” لغة الصليب ” . واللغة تعني ” الخطاب، الكلام “.
يقول بول دي سيرجي: ” … لا يحتاجُ بولس، في ما يخصّ التبشير بالإنجيل، إلى اللجوء لحكمة الخطاب، فيفرغ صليب المسيح من معناه. ولكنه لا يقصد بذلك فنّ الخطابة الذي يعشقه اليونانيّون حسب، ولا يقصده هو وحده فقطـ. إنما السؤال هو: هل ترى يجعلُ فنّ الخطابة صليب المسيح باطلا إذا ما استُخدم هذا الفنّ في حدوده؟ لا شكّ أنّ كلمة ” الخطاب ” (وهي ترجمة لكلمة لوغوس) التي عبّر عنها بعبارة ” كلمة “، تشيرُ إلى خطابات المدارس الفلسفيّة لدى عرض النظريّات، وإلى خطاباب الحكمة التي تتّشحُ بحلّة الفنّ الخطابيّ “.
تقول روزلين – دوبون روك : ” ما معنى هذا التركيب الكلاميّ الذي اخترعه بولس، واخترعه بمعنى اكتشفه؟ . إنّ معاني المصدر كثيرةٌ في اللغة اليونانيّة، وغموضه هو إحدى ميزات الكتابة البولسيّة. المصدر الموضوعيّ أوّلا : اللغة التي تتحدّث عن الصليبْ، وأيضا المصدر الذاتي: الصليب؛ يتحدث، إنه يوحي، بل هو خطابٌ وكلام. يمكننا التفكير أيضا في صلب اللغة. في جميع الأحوال، يحملُ الصليب هنا، كما في أماكن أخرى لدى بولس، قيمة رمزيّة عالية، ومع ذلك فهي لا تلغي المعنى الأوّل وهو الإعدام.
لا يمكننا أن ننسى أنّ خطاب اعتبار هذه الأداة حكمة رُفِض أوّلا. لكنّه صار منذ ذلك الحين يقوم بالإنتقال، وبـــ” تحوّل ” حكمة البشر إلى حكمة الله، بحسب تعابير بيير – ماري بود. إذا كانت حكمةُ الكلام تبطل صليب المسيح، فلغة الصليب تمنحه كلّ قوّته، وهو يفرض الصليب كحكمة ٍ أخرى. فـــــخطّ ” لغة الصليب ” الأحمر يعبرُ كلّ النصّ.
لقد رفض الله حكمة العالم، بحسب بولس: ويؤخذ العالم هنا بالمعنى السلبيّ، في اكتفائيّته وجهله الدينيّ؛ أمّا الحكمة فتتشخّص في الحكيم، وفي الإنسان المتحضّر والعاقل (و الإشارةُ هنا إلى أولئك الذين، على خطى سقراط وأفلاطون، يمارسون البحث المشترك عن طريق الأسئلة والأجوبة). وليست تلك إدانة للعقل بل إختيار من الله، ضمن مخططه الخلاصي ومن أجله، للبلوغ إلى حالة تتحاشى الإكتفاء بالذات وتُظهر حكمة الله وقوّته للجميع.
إنّ لغة الصليب تُدلي بالحكم. إنها ذاتُ حدّين: جنون وهلاك لبعضهم، قدرة الله وطريقُ الخلاص لآخرين. وهذا الحُكم هو على طريق المعرفة والخلاص الذي استطاعَ اليونانيّون أن يكتشفوه: هـــــيمنة الحِكمة والبـــــلاغة عليه. إنطلاقا من هذا، تُبنى الحجّة البولسيّة على مرحلتين متتاليتين يمكنهما أن تمثّلا ببساطة عودة جذريّة للحِكمة، في نقد أطروحة شديد بين 1 : 20 و 2 : 5 من الرسالة ذاتها، ” ألم يجعلَ الله حكمة العالم حماقة “؟ و 2 : 6 ” ومع ذلك فإننا على حكمة ٍ نتكلّمُ بين المؤمنين الراشدين”. ومع ذلك، وطَوال كلّ مرحلة من المرحلتين، لا تتوقّف عمليّة التعــــبير والإلحاح على إنقلاب القيم والتصوّرات.
المرحلةُ الآولى تُدخِل كلّ ادّعاءات الحكمة البشريّة في أزمة وتجعلُ الصليب يعارضها. والآية 21 تقدّم تعبيرًا مركّزا لإخفاقِ الحكمة: ” فلّما كان العالمُ بحكمته لم يعرف الله في حكمة الله … ” فلا أعمال الخلق، ولا العقلَ الممنوحَ للكائــــــن البشـــــريّ، أوصلت الناس إلى معرفة الله الخالق، فلم يعرفوا، كما تقولُ الرسالة إلى أهل روما ( 1 : 18 – 23)، كيفَ يمجّدونه ولا كيف يشكرونه، بل بالعكس، جعل الناس أعمالهم في الخليقة وحكمتهم أوثانـــــــًا حبسوا أنفسهم فيها . وإذ امتلأت الحكمةُ البشريّة عُجبا بسلطانها، انغلقت على ذاتها وانحطّت.
لذا، إختارَ الله ضدّ الاطروحة، ما يخالف الحكمة تماما، ” حماقة التبشير ” التي تدعو الناس إلى الإيمان ” حَسُنَ لدى الله أن يُخلّص المؤمنين بحماقة َ التبشير”. حماقةٌ تطرحُ أرضا كلّ التقاليد الفلسفيّة والدينية الكبيرة التي سلكت البشريّة بموجبها حتى ذلك الحين: ” ولمّا كان اليهود يطلبونَ الآيات، واليونانيون يطلبون الحكمة …. “. اليونانيّون واليهود، بحسب بولس اليهوديّ، هما القسمان المكوّنان للبشريّة. الأوّلون يطلبون الحكمة والفلسفة: طلب المعرفةو الحقيقة يشغلُ الفلسفة اليونانيّة منذ قرون، والعقل يسعى من خلالها إلى السيطرة على العالم؛ والآخرون يطالبونَ بآيات ٍ: فاليهود ينتظرونَ أن تظهر قدرة الله ثانية ً، كما ظهرت من قبلُ بأفعال تحرير مدهشة ” بيد ٍ قويّة وذراع ٍ ممدودة”، من خلال تدخّل حاسم يخلّص الشعب المختار الذي يتميّز بعلامات ٍ في الجسد.