رأينا في الحلقة السابقة ماذا علينا أن نعمل لنجد الحقيقة. وتكلّمنا عن الخبرة وسلبيّات الإنغلاق على ما عندنا، وأنّ ضيق الأفق والغرابة اللتان فينا، تحجبان عنّا الدخول في سرّ وجودنا. ورأينا أيضا كيف يمكننا بلوغ العامّ والشامل، من خلال مفهوم الشخص.
وسنبدأ الآن من حيث إنتهينا: ما هو الإنسان وما هي الحريّة؟ وكلّ هذا الشرح، كي لا نأخذ القضيّة من جانب أحاديّ، هو من مفهوم ٍ انثروبولوجيّ فلسفيّ، ومبدئيّا نحنُ لم ندخل إلى الآن، في موضوعنا عن الحريّة، من الجانب اللاهوتيّ والأخلاقيّ.
علينا أن نختصرَ جميع معاني حياة شخص ما بفكرة واحدة هي: أن يقرّ ويعترف بأنّ كلّ ما يبحث عنه، وما سيجده، يُختصر بثلاث قيم:
الصحيح، والصالح، والجميل.
ولكن! أينَ نبحثُ عن هذه القيم؟
هل نبحثُ عنها خارجــــــــــا عنّا أم فينا؟ وهل يمكن أن نجدها خارجــــــًا عنّا، لو لم تكن بالفعلُ فينا؟ إنّ التقدّم لا يسيرُ من تحت إلى فوق – كما يسود الإعتقادُ لدى الكثيرين – ، بل من فوق إلى تحت، وهذا ما سيشرحه الفيلسوف عمّانوئيل كانط في كتابه عن التربية.
يسعى كانط، في نظريّــــــته عن التربية، إلى تنمــــية بذرات الإنسانيّة الحاضرة فينا، فتصبح طبيعة ثانية فينا لتساعدنا على العبور من حالة إلى أخرى، من حالة مفروضــــة إلى حالة الحقيقة. وهذه ممكنة بفضل الفكر. لكن، تحقيقُ الهدف الكامل لن يتحقق بالخبـــرة فقط، لأنها ناقصـــة. لذا، يأتي دورُ التربية في تجسيد ِ قيمة الفكر في الحياة اليوميّة. وهكذا، يمكنُ للإنسان أن يعـبر من وحشـــيّة الحيوان – أي الحالة الطبيعيّة – إلى حالة أخرى غير موجودة بعـــدُ، ولكن يجبُ أن تتحقّق. بمعنى، أن تصيرَ كينونة، وهذا هو إكتمـــالُ ما ينبغي على الإنسان تحقيقه كي يصيرَ إنسانا. (من الناحية الكرستولوجيّة يعطينا المسيح ، سيّد الكون والتطور ، إكتمال كياننا الحقيقيّ لأنه هو، بذاته، نقطة الأوميغا الأخيرة). فهو (الإنسان)، بخلاف الحيوان الذي استقرّ على ما لديه من غرائز. أمّا الإنسان، فعليه أن يُنمّي بذورَ إنسانيّته فيه، ( ويسوع المسيح، المائت الذي هو الحبّة التي دُفنت في الأرض، لكي تقومَ من جديد في المجد)، ولذا، سينبغي عليه ان يكونَ عارفا بالتربية. ولكنْ، مفهومها الواضح لن يتشكّل صافيًا لديه. فالإنسانيّة ما زالتْ في تقدّم مستمرّ.
ماذا ينبغي أن نفعل إذن؟
يجيبُنا كانط ويقول: ” ليكُن لديك الشجاعة، إستخدِمْ الذكاء فيك، ونورَك الخاصّ، وهذا يتطلّب فكرًا ومسارًا لتحقيق الخير، وينبغي على أعمالك أن تُبرز قيمــــــــا وأفكارًا، وهذه لا تتحقق بلا بعض المقاومة، لكنّها هي الثمنُ الوحيد الذي ندفعه لإسترجاع ِ حريّتـــــنا والسيطرة عليها كـــ بشر“.
إنّ إستعادة الحريّة، عبر أيّام حياتنا، ومن خلال الخبرة اليوميّة – التي تُسلّم إلينا المعرفة الموضوعيّة شيئا فشيئا – سوفَ تصير ممكنة، بفضل تفسير ما تخفيه لنا ظواهر الأشياء، كما هي بالنسبة إلينا، وكما نحنُ نفكّر فيها، وهنا يشرحُ كانط الفرق بين ” المفهوم والفكرة“، فالظواهر نفكّر فيها بفضل المفاهيم التي توحّدها وتعطيها معنىً، ولكن بفضل الفكرة المنظّمة، نوحّد المفاهيم. هكذا، نرى ملامحَ شيء يشبه الهرم أو ما سُمّي بهرم المعرفة. وهو يعلم كيف أنّ فكرنا قادرٌ على توحيد أشكال المسارات، فنستخلص من العامّ الكاذب، فالعموميّ وحده ليس موضوع الخبرة، وإنّما العموميّ والجوهريّ والمتسامي؛ هذه الثلاثة بحسب كانط، هي التي تجعلُ الخبرة ممكنة. لا فقط كخبرة آنيــــّة( حيث الأمور تُعطى فقط)، ولكن، كخبرة من خلالها تؤخَذ الأمور وتُعرَض للفكر الذي يُغذّيها ويملأها بالحقيقة كما يملأ الماء الإسفنج.
هكذا، تتعلّق معرفتـــنا بالخبرة لدينا، وبإنتباهنا للأشياء، مع ذلك، وكما يقولُ آرسطو : “نحن نتثقّف بالأشياء التي لا تعرفُ الكذب، وهذه الأشياء نلقفها بجهد الفكر. فصحيحٌ أنّ من هو بلا خبرة، هو في الظلّ (العلمُ نور). لكنّ الخبرة تُنظّم وتوحّد وتستنيرُ بالفكر الذي يزيّنها. من أجل هذا، يمكن القول، إنّ الخبرة هي حياة الفكر ويقظة وقدوم للروح، وهذا يُعطي الفكر قابليّة أن ينكشف لنفسه حالما يتّصل بالعالم الذي يراقبه. كي يقومَ الفكر بدوره أمام الأشياء المُعطاة، والقيم التي يتّجه نحوها، فيكتشف أنها ناقـــصة لديه فيرغبُ فيها لأنها غير حاضرة في خبرته بسبب كمالها. ولكنّ الإنسان لن يتمكّن من تحصيل الخبرة لو لم يكن لديه ” مذاقٌ ” مُسبَق لها: دور الفكر إذن، هو أن يبرز القيم ويُجسّدها في حياتنا اليوميّة، فيحاول تحصيلها لنفسه مؤكّدا أنها الحقيقة. فالبحثُ عن الحقيقة، هو مصير الإنسان. سنرى، في حلقات قادمة، معنى الحقيقة والحقّ في كامل أبعدها، من خلال شخص ٍ واقعيّ، وليس من خلال نظريّة مجرّدة.
معرفة الحقيقة تسمحُ لنا أن نتحرّر من ذاتيّتنا، التي ننسحبُ إليها كملجأ عندما نعجَزُ عن وضع علاقة بيننا وبين تصوّراتنا للعالم، هؤلاء هم المثاليّون، أو أن يؤكّد الواقعيّون عدم إمكانيّة وضع علاقة مع العالم والوجود. لكن هناكَ مسافة يجب أن نحترمها بالنسبة إلى العالم، فلا نستكين ونستسلم، فبلا عمل الفكر لا يوجد فاعليّة، ولا حقيقة علميّة. الحقيقة العلــــميّة ممكنة فقط إذا كان الفاعلُ قد تخلّص من فردانيّته، وكان لديه قيمة روحيّة، أي عامة. الرغبة بالمعرفـــة، تسمحُ بتفهّم الأشياء وإحتلال المعرفة الموضوعيّة القابلة للتبادل والخبرة المُجرّبة والمُعاشة، أي الخبرة الروحيّة. فإذا ما كان فكرنا قد عرف ما هو صحيحٌ، وأكد ذلك، وأعطى موافقته له، سوفَ يصيرُ مرادفــــــــًا للحقيقة وشبيها لها، فيكتشف طبيعته الصحيحة. إنه مخلوقٌ من أجل الحقيقة. ( وهذه الجملة الأخيرة، توحي بمعنى مسيحانيّ لاهوتيّ عميق).
يتبع