إنسان عصرنا!
يومًا بعد يوم، يدخل عالمنا في أنفاقٍ رماديّةٍ وربما سوداويّة. صنع إنسان عصرنا، تلك الأنفاق لنفسه، بالرغم من ذكائه وتطوّره على جميع الصُّعُد. فالناحية السلبيّة من شخصيّته تؤثّر بطريقة مباشرة على حياته اليوميّة؛ وتسبّب له المتاعب المتعدّدة والكثيرة، فلا يتجرّأ على تنفيذ الحلول الممكنة. ألا يُدخل المرء نفسه في إبادة جماعيّة لأبناء الأرض، من خلال تصرفّه الأنانيّ والحاقد، بإخضاع الناس بعضهم لبعض، عن طريق العنف والتسلّط؟ أَوليسَ هذا من مبرّرات تفشّي الإرهاب والانتقام والتعصّب والحروب وظهور الثورات الاجتماعيّة؟ أَليسَ هذا نوعًا من إبادة جماعيّة من خلال هدم مبادئ البنيان الاجتماعيّ ومفاهيمه؟ أيّ إنسان لأيّ عالم؟ أَوليسَ عالمنا اليوم هو صورةٌ عن إنسان عصرنا؟! هل سيقوم إنسان اليوم من كبوته، لكي يتبنّى طريقة جديدة للنظر إلى الواقع، على الرغم ممّا يشوبه من: شوائب، وصعوبات وتعقيدات وأحزان وكآبة وخوف واضطرابات وفساد وقتل وشرّ؟ هل سيعي أنّه قادر على بناء مجتمعٍ مبنيّ على : السّلام والاستقرار والكفاءة واحترام حقوق الإنسان والآخر المختلف؟ أم سيبقى يحطّم ويشوّه بصورته وكينونته وتركيبته واستمراره؟ أَوليسَ هو نفسه المسؤول الأوّل عن معظم ما يحدث على الكرة الأرضيّة؟
- مقوّمات التنميّة المُستدامة
التنميّة المُستدامة هي نمطٌ من التقدّم والرقيّ مع المحافظة على احتياجات الأجيال المستقبليّة. “إنّها مفهوم ديناميكيّ يحمل الحركة الإيجابيّة، أيّ الاستمراريّة في التغيير والتبديل، والتحديث والتطوير، والقدرة على التأقلم والتعامل مع متطلّباتٍ سريعة التغيير في بيئاتٍ مختلفة ومعولمة”. التنميّة هي عمليّةٌ مدروسة، مخطّطة، هادفة، قد تساعد في توجيه عمليّة النموّ وتسارعها، أو تحسين نوعيّتها، أو تغيير اتّجاهها.
تقوم التنميّة المُستدامة على ركائز ثلاث: الاقتصاد، الاجتماع والبيئة، أيّ أنّها تطال الإنسان بشكل مباشر، من أجل تفعيل الشراكة الحقيقيّة بين أبناء الأرض للعيش بسلامٍ دائم. بالتأكيد هناك تناغم في ما بين تلك الركائز التي ينتج عنها أبعاد مختلفة تصبّ في خانة إتمام وتحقيق أهداف التنميّة المُستدامة. إنّ الركائز والأبعاد والأهداف للتنميّة، تصبّ في خانة تنظيم الحياة بطريقة متجدّدة وحديثة، بتطوير المجتمع بطريقة سليمة وصحيحة، مبنيّة على العدالة وتكافؤ الفرص، وممارسة الحقوق والواجبات، واحترام حقوق الإنسان، والتعامل بصدق وشفافيّة، حيث المحافظة على تراتبيّة سُلَّم القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، مع المحافظة على ممارسة الفضائل الإلهيّة، ألا وهي: المحبّة والرّجاء والإيمان. هل يعي حكّام دول العالم واجباتهم تِجاه مواطنيهم؟ هل يُسهمون فعلاً في خلق أُطُرٍ مؤاتية للوصول إلى التنميّة الشاملة والمُستدامة؟ أم يستغلّون موارد الطبيعة ومؤهّلات مواطنيهم ومقدّراتهم بطريقةٍ سيّئة وسلبيّة؟ ألا تُرتكب باسم النموّ الاقتصاديّ والعيش الكريم، و التنميّة المُستدامة وحقوق الإنسان، لا سيّما المرأة، مخالفاتٌ ضدّ الشعوب والبلدان الفقيرة؟
- فاعليتها
يعتبر الباحثون في علم الإنسان والاجتماع، أنّ التنميّة المُستدامة هي مفهومٌ جديد، يقترح بعض الحلول للحدّ من الأخطار المُحدقة بالإنسان وبكوكب الأرض، لا سيّما البيئة، التي هي مصدر حياة الإنسان على هذا الكوكب. يتطلّب تحقيق مشاريع التنميّة المُستدامة وأهدافها، الإرادة الصّالحة والعلم والثقافة، والتربية على الأخلاق والمبادئ. تنطلق تلك التنميّة بالاستثمار في الإنسان، الذي هو الهدف والغاية والأداة والوسيلة. وهذا يتطلّب وجود أشخاصٍ “قادرين”، وأصحاب مؤهّلاتٍ واختصاص، ومقدّراتٍ ومعطيات؛ للاستفادة من كلّ تطوّر وتغيير، مع امتلاك قيمٍ إنسانيّة وأخلاقيّة، من أجل تحسين “حالة” كلّ أبناء الأرض. من هنا، على الإنسان أن يعمل على ذاته، من أجل “تفعيل” وإنجاح مسيرة التنميّة المُستدامة، الأمر الذي يعزّز الشراكة والمشاركة بين أفراد المجتمع وبين الدول.
إنّ برامج التنميّة المُستدامة وسياساتها، تخفّف من الصّراعات والخلافات، والعنف والقتل، بين أفراد المجتمع والدوّل، وهذا يدفع بالمواطن، نحو ممارسة المواطنة، من خلال الانتماء إلى الوطن، والالتزام بالقيم، وتطبيق الشفافيّة، والمساءلة، وممارسة الدّيمقراطيّة، وعيش الحريّة المسؤولة، وتقاسم الموارد الطبيعيّة، وتكافؤ الفرص، ممّا يزرع الأمل والأمان على جميع الصُّعُد.
أهدافها وأبعادها
تهدف التنميّة المُستدامة إلى تحسين مستوى حياة الإنسان، من خلال القضاء على الفقر، لا سيّما الفقر المُدقع، وتأمين حاجات الإنسان الأساسيّة بطريقة عادلة، مثل المسكن والتعليم والصحّة وفرص العمل. كما القضاء على الجوع، والمحافظة على تأمين الغذاء السليم والمُغذّي بكميّات كافية. وبالتالي يعزّز الصحّة الجيّدة والرفاهية، ويحدّ من الأمراض الجسديّة والنفسيّة. تطاول حقوق الإنسان الأساسيّة، الحصول على التعليم والثقافة. تُعتبر تنمية الموارد البشريّة إحدى الركائز الأساسيّة لتحقيق أهداف التنميّة الشاملة، واستدامتها. فدورها الأساسيّ، الجوهريّ والمحوريّ، هو في صقل المهارات والمؤهّلات، وتحريك القدرات، وتنمية الكفاءات والكفايات البشريّة، في جوانبها العلميّة، المهنيّة والتقنيّة اللازمة لتلبية متطلّبات التنميّة، واحتياجات الإنسان.
تسعى التنميّة إلى المساواة بين الجنسين، كما تكافؤ الفرص والعمل على نموّ الحياة الاقتصاديّة، من خلال تعزيز الصناعة والزراعة، مع المحافظة على حقوق العمّال، في مجالات آمنة ولائقة، ممّا يساعد على توفير مدن، تؤمّن المساكن والمياه، والكهرباء والصّرف الصحيّ، والاتّصالات والطرقات. بالتأكيد مع المحافظة على البيئة، من خلال الحياة البحريّة والبريّة، واحترام الطبيعة. ومن أجل تحقيق أهداف التنميّة وأبعادها، لا بدّ من الشراكة بين أفراد المجتمع والبلدان، من أجل إرساء العدل والسّلام.
- نحو النجاح؟
تحثّ التنميّة المُستدامة، إنسان عصرنا، إلى تطوير الوعيّ الوجدانيّ لأخذ المبادرات التي تتحلّى بالقدرة والإرادة الحرّة، بالسعيّ نحو فتح آفاق حديثة ومتطوّرة، للعيش ضمن حياة، يحلو العيش فيها ومن أجلها. وبالتفاعل مع أحدى إبداعات الله ومخلوقاته، ألا وهي الطبيعة. وبالتأمّل في ما وراء الطبيعة، الكون والخلق والخالق.
ليدخل إنسان عصرنا، في العمل الجاد والمُتفانيّ، بحمل قضيّة التنميّة المُستدامة، التي تحمل طابعًا وبُعدًا إنسانيًّا أوّلاً وأخيرًا، والمبنيّة على الأخلاق أكثر منها على العلم.
لنعزّز روح التعاون والتعاضد، التي تُسهم في المطالبة بتحقيق الاحتياجات المُحقّة للمواطنين، عبر الضغط على الحكومات والأنظمة والمؤسّسات، من قبل المجتمع المدنيّ.
لنتذكّر أنّ المرأة عاملٌ تنمويّ بامتياز، ومحرّك وركن أساسيّ وضروريّ لتحقيق أهداف التنميّة.
لنشجّع الأفراد على تحمّل المسؤوليّة الجماعيّة، من خلال المشاركة، في صنع القرار وتنفيذه، ممّا يعزّز الحسّ الأخلاقيّ، الممزوج بالحريّة الداخليّة، والإرادة الحرّة، والشخصيّة القويّة، التي لا تخضع للضغوط أو المُغريات.
لنعمل على تطوّر حياة الأفراد، من خلال البرامج والمشاريع، والأنشطة، ورصد الإعتمادات والموازنات، وتقويم الأعمال، من أجل الحصول على النجاح والاستمراريّة.
لنحلم بالوصول إلى تحقيق الخير العام، من خلال العلم والتربية، بالبحث عن حياةٍ فضلى وجديدة، بتحطيم الحواجز، وإعطاء بعض الحلول، ومواجهة الصّعاب والمشاكل.
لننهض بإنسان عصرنا، نحو الارتقاء من خلال الأعمال الإبداعيّة والإبتكاريّة، والخلاّقة، والفكر النيّر، الذي يحدّ من الاستعباد والتبعيّة والفساد والغشّ.
لننسج علاقات متوازية ومتكافئة ومنفتحة بين أفراد المجتمع، من خلال التواصل السليم.
لنحافظ على مضامين خطة (أجندة) 2030 للتنميّة وأهدافها، من خلال المبادئ، وخطط العمل والأولويّات، والتقيّيم والتصحيح، كما التعلّق بالترابط والشموليّة، والتكامل وفعاليّة التنفيذ والشراكة، حيث لا تجزئة، بل وحدةٌ مترابطة متكاملة.
لنسهر على حسن سير العدالة، التي تؤمّن احترام القوانين والشرائع، وحقوق الإنسان كافة.
لتكن مسيرة التنميّة المُستدامة، مسيرةٌ نحو الأمل بحياةٍ سليمة، يخوضها إنسانٌ سليم، تفتح الآفاق وتعطي بعض الآمان والطمأنينة والسّلام.
نعم، التنميّة المُستدامة: أملٌ جديدٌ للإنسان.
الأب د. نجيب بعقليني
رئيس جمعيّة عدل ورحمة