سنحاولُ الإختصار كثيرًا حول موضوع الحريّة في الكتاب المقدّس لأنّ موضوع الحريّة في الكتاب يحتاجُ لدراسات كثيرة، فلضيق الوقت، سنقتصرُ على بعض الأمور المهمّة بخصوص الحريّة في الكتاب المقدّس، ومن بعدها، نبيّن ما هي حريّة يسوع وكيف يُحرّرنا، ومن ماذا يحرّرنا. وسندخل أيضا في معاني الحريّة في اللاهوت والعقيدة، ومن بعدها سنحاولُ الإجابة عن تساؤلات الناس التي، في كثيرٍ من الأحيان، تكون مكمّلة أيضاً لموضوع الحريّة وفيها نتطرّق لأمور واقعيّة.
حين نتحدّث عن حريّة الإنسان في الكتاب المقدّس، نعتبر نفوسنا في موقع خطر. لماذا؟ لأنّ عالم الغرب ذكرَ الضرورة والقدر، وعالمُ الشرق رأى في قراءة النجوم مصير الإنسان الذي لا يستطيعُ أن يخرجَ منه مهما كانت محاولاته، بل العالم القديم كلّه عاشَ في “عبوديّة” بالنسبة إلى السلطة السياسيّة؛ فجميعُ الناس من الوزير الأوّل حتى آخر شخص في البلاد هم “عبيد” ألملك. وهم يــــخافون “ألإله” الذي يمكنُ أن يدمّرهم، وخصوصًا ذاك الإله المجهول الذي تحدّث عنه بولس الرسول، والذي منه خافَ أهل أثينة، فبَنوا له معبـــدًا. والخطرُ يزداد حين نعرف أنّنا لا نجدُ لفظ الحريّة في العهد القديم، كما في العربيّة أو السريانيّة ( ح ا ر و ت ا)، بل ألفاظ ترتبطُ بالتملّص ( م ل ط) وبالإرسال، حيث الآخر يُطلقنا فنستطيعُ أن نتحرّر من سلطــته. ( خروج 21 : 2 – 5).
الحريّة تعني، في الكتاب المقدّس، أنّ الإنسان لا يرتبطُ بسيّد “يصنعه فيكون خاتمًا بين يديه”. وهذا السيّد هو الإله القدير، إيل شدّاي. ننطلقُ من مناخٍ يرى الله حاضرًا بحيث تضيع شخصيّة الإنسان، فنصل في النهاية إلى حوار بين الله وشعبه، بين الله وكلّ مؤمنٍ من مؤمنيه. إذا كان الله في الكتاب المقدّس هو شخص حيّ يستطيع الإنسان أن يقيم معه “حوارًا”، فهذا يعني أنّ الإنسان ليس “آلة” في يد القدير يتلاعب بها كما يشاء. وإذا كان الخلاصُ الذي يُعطى لنا جوابًا على نداء الله، فما قيمةُ جواب لا يكونُ حرّاً؟ عندئذ، إما نكون أطفالاً يقتادنا الله إلى “سعادته”، وإمّا يكون الله ظالـــمًا حين يمنعُ عنا الخلاص.
كثيرٌ من الناس في عصرنا، لديهم شعورٌ عميق بكرامة الإنسان وحقوق الإنسان وحريّة الإنسان. هذا ينعكسُ في رغبة الإنسان في تحديد مصيره بنفسه وتحقيق ذاته، وفي تَوقه إلى الحريّة والهويّة الخاصّة، وفي المطالبة بالعدل والسلام وصيانة الخليقة. إنّ مثل هذه البصائر والمواقف لها في عالمنا اليوم، وزنٌ خاصّ. هناكَ فلسفات ونظرات للعالم مختلفة، هناكَ أديانٌ ومذاهب مختلفة، هناك العلم والتقنيّة، هناك تقلّبات في المجتمع والإقتصاد، وهناك تغيّرات في السياسة تؤذن كلّها بحلول عصر ٍ جديد. “إنّ الجنس البشريّ يعيشُ اليوم مرحلة جديدة من تاريخه تمتاز بتقلّبات عميقة وسريعة تمتدّ شيئاً فشيئاً لتشملَ الكرة الأرضيّة برمّتها” ( ك ع 4).
في هذا الوضع، يطرحُ الإنسان بطريقة خاصّة السؤال عن نفسه وعن حياته: من أنا؟ من أين جئتُ؟ إلى أين المصير؟ ومثل هذه الأسئلة نجدُ لها أجوبة مختلفة. والمسيحيّون يشهدونَ في إيمانهم أنّ السؤال عن كيان الإنسان وأصله وغايته يجدُ جوابه الأخير من عند الله؛ بأنّه هو الذي خلق الإنسان، وهو الذي يخلّصه ويحرّره بيسوع المسيح ويمنحه موعد الإمتلاء النهائيّ في مجد السماء الجديدة والأرض الجديدة.
إنّ كتاب العهد أو شريعة العهد هي “الوصايا العشر“. ويدعوها سفر تثنية الإشتراع: “لوحَي العهد” (9 : 9 – 11 ، 15) . وأحياناً يطلق على الوصايا العشر لفظة موجزة “العهد” ( 4 : 13). يبدأ كتاب العهد بتعريف الله بنفسه بشكلٍ مهيب: “أنا هو الربّ إلهك الذي أخرجكَ من مصر من دار العبودية…” ( تث 5 : 6 ، خر 20 : 2). فمنذ البداية يعتلنُ الرب إلهاً محرّراً ومخلصاً. لذلك يقولُ النصّ المختصر : “أنا هو الربّ إلهك”، ليس بمعنى أنّ الله هو إله الوصايا وإله الدينونة. فالله، في التعريف بنفسه، إنّما يريدُ إبلاغنا بشرى سارّة. فالتحرير من مصر هو العمل الخلاصيّ الأساسيّ الذي قام به إله العهد، وهو في الوقت عينه عمل نموذجيّ يؤذنُ مسبّقاً بما سيقوم به في المستقبل من أعمال خلاصيّة، فهو إذن “وعدٌ حقيقيّ”.
يقولُ الأب فرنسوا فاريون: إنّ كلمة فصح مشتقّة من كلمة عبريّة تعني “العبور” أو “الإنتقال” . في حياتنا عبوران: العبور الأوّل هو ولادتنا البشريّة. إنتقلنا من العدم الذي كنّا فيه، قبل مجيئنا إلى العالم بتسعة أشهر، إلى وضع الطفل في سريره. إنه عبورٌ عجيب في حدّ ذاته، إنتقالٌ من العدم إلى الوجود البشريّ الذي هو وجود عاقل وحرّ. لكن هذا العبور الأوّل إلا شرط عبور ثانٍ…. العبور الثاني هو الإنتقال من وجود بشريّ إلى وجود بشريّ إلهيّ بحصر المعنى. وهذا العبور لا يقاسُ بالعبور الأوّل، أو إننا لا ندري ما نقولُ حين نلفظ كلمة الله! إنه أمر رهيب أن ننتقل من العدم إلى الوجود البشريّ، ولكنه لأمر أرهب بكثير أن ننتقل من الوجود البشريّ إلى الوجود البشريّ الإلهيّ. يتمّ العبور الأوّل من دون موافقتنا : لم نُستأذن لإنجابنا. طالما اشتكى من ذلك لوقريتيوس الشاعر اللاتينيّ القديم – وكان متشائماً – في بيت شعريّ رائع كتبَ فيه أنه “قـــُذِفَ من بطن أمّه إلى شواطئ النور” ، وأضاف: “وقد تمّ كلّ ذلك من دوني!” . أمّا العبور الثاني فإنه لا يتمّ من دوننا ويجري طوالَ الحياة (فرح الإيمان بهجة الحياة ص 36).
المراجع
1 – الحريّة في الكتاب المقدّس ، دراسات بيبليّة 31 ، الناشر الأب إيوان شهوان
2 – المسيحية في عقائدها، الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم 9 ، نشره أساقفة ألمانيا
3- فرحُ الإيمان بهجة الحياة، فرنسوا فاريون اليسوعيّ