من أصعب الأمور التي لا يمكننا فهمها بسهولة هي: حريّة يسوع! لأنّ الحريّة هذه ترتبطُ بالنبع الذي هو أبيه، ولا ترتبطُ بالعالم أو بمصدر أرضيّ آخر. فحريّته هي من الآب وبإتّحاده به والإرتباط معه. فمخطّط الآب هو مخطّط الابن، وهو ذاته مخطّط الروح في خلاص العالم. فتعالوا نرى ما هي حريّة يسوع الناصريّ، وكيفَ يمكننا، ولو قليلاً، الولوجُ في معانيها، وهل نقدرُ أن نتوصّل إلى أن نطبّق ولو قليلا من حريّة يسوع؟
يسوع يكشفُ حقيقة عميقة في الإنسان : الجماعــــــــــــة
إنّ الإنجيل يُلقي الضوءَ على أصنام الإنسان ويبكّته عليها، ويدعوه إلى الإهتداء “تغيير العقليّة”، و “تغيير المسار”، فكرامة الإنسان ليست في قدرته على السيطرة، بل في كرامته وفي قابـــليّته للإستقبال. على الإنسان أن يستقبل نفسه ويقبلها رغم كل ما فيه، لأنّ الله “يقبله رغمَ كلّ شيء” ( بول تيليش). حريّة الإنسان ليست أن يفعلَ ما يحلو له، بل أن يختارَ ما يجبُ عليه فعله… أن يختارَ الأمرَ المعقول، لا الأمر المجنون ! وعظمته لا تعتمدُ على كمالٍ نظريّ، بل باعترافه الشجاع بخطيـــئته، فهذا الإعتراف وحده يحـــرّره.
ومستقبل الإنسان لا يعتمدُ على سيطرته على التاريخ (كلّ الذين سيطروا ويسيطرونَ على التاريخ أصبحوا رمادًا في الأرض)، بقدر اعتماده على انفتاحه على النعمة… الله وحده هو مصدرُ النعمة، وهو المانح للحريّة الحقيقيّة، وهذه الحريّة الحقيقيّة أصبحَ لها وجهٌ بشريّ في شخص الابن.
ماذا أعطى يسوع؟
أوّلاً/ كرامة الإنسان “كلّ إنسان جديرٌ بالإحترام لأنه فريدٌ من نوعه”.
لكلّ مجتمعٍ هامشيّوه، أي بشر لا قيمةَ لهم، الجميعُ يفرّ منهم ويُبعدهم ويشمئزّ منهم. في بعض البيوت، الابن مقبولٌ والبنت هامشيّة. في بعض المجتمعات، الطفل يُسمّونه “جاهل” ولا قيمة له. وفي دول عديدة، المرأة هامشية لا أهميّة لها إلّا كزوجة أو كامرأة : لا تأكلُ مع الرجل بل تخدمه واقفة، عارٌ على أبيها وزوجها إذا أخطأت. كان أحدُ الربابنة في زمن يسوع يقولُ: “على كلّ رجل أن يصلّي ويشكر الله لأنه لم يخلـــقه إمرأة ولا وثنيّاً ولا جاهلاً”. في مجتمع يسوع، كان البرص أيضاً هامشيّين، أي يجبُ الهربَ منهم وتجنّبهم. يقول المفسّر الفرنسيّ البيبلي جاك هيرفيو (في تفسيره لإنجيل مرقس): “في ذاك الزمان، كان يُجعَل الأبرص بعيدًا عن المجتمع. ومنذ أقدم العصور،كانت تؤخذ أكبر الإحتياطات لتجنّب كلّ إتصال جسديّ بأشخاص يتمتّعون بالصحة مع هذا المريض الخطير… والأبرص الذي به البلوى يلبس ثيابه مشقوقة ويكشف رأسه ويغطّي شاربيه وينادي : نجس، نجس ! ما دامت البلوى به، يكونُ نجسًا ويسكنُ منفردًا خارج المحلّة”.
ماذا فعل يسوع؟
الأولاد: يستقبلهم (متى 19 :14)، بل يقولُ أكثر من ذلك، فمن يستقبلهم يستقبلُ المسيح ذاته (متى 18 : 1 – 5)، فجعلَ من الطفل أيضا مقياسًا .
النساء: يبدّل يسوع التقاليد الموروثة ( سنرى أكثر هويّة يسوع لدى مرقس) بخصوصها، فيحادثها (يو 4 : 2). ورغم الفصل بين الرجال والنساء، يسمحُ لهنّ بمرافـــقته (لو 8 : 1 – 3)، يسلّمهنّ مهام كبيرة : مريم – البشارة ، السامريّة – المسيحانيّة ، المجدليّة – القيامة.
أمّا البرص، فيتركهم يلمسوه منافيًا بذلك كلّ الأعراف التي تخصّهم .
هذه الأمثلة الثلاثة تكفي لشرح لنا أسلوبَ يسوع المسيح. وهو بذلك: يعطينا دهشة، ويُسبّب إزعاجــــًا، ويخلقُ شكوكـــًا لدى البعض! ويُفرح الآخرين. يسوع في سلوكـــه منتبهٌ ويقظ على كلّ إنسان. لا يوجد هامشيّون بالنسبة إليه. لأنهُ يحسّ بكلّ واحد منهم، وله قابليّة يقظة كبيرة جدّاً هذا لأنه مرتبطٌ بسرّ أبيه. فيقرأ العيون، ويفهمُ الإشارات، ويُدرك ما يدور من حوله.
يقولُ مارتن لوثر كينغ : “لكلّ إنسان الحقّ بالإحترام، لأنّ الله يحبّه، وأنّ قيـــمة الفرد لا تقاس بذكائه ولا بجنسه، ولا بمستواه الإجتماعيّ، قيمته تأتيه من علاقته بالله. ليس للإنسان من ثمن إلّا ذلك الذي يعطيه إيّاه الله“.
ثانيا: اعطى الإنسان عطيّة الحريّة
عاد يسوعُ إلى ضيعته بعد أن بدأ حياته الرسوليّة، الكلّ يعرفه، يعرضونَ عليه القراءة في المجمع يوم السبت، يقرأ في إشعيا ويقول: “إنه هو أيضاً جاءَ ليعطي للمأسورين تخــليةَ سبيلهم، جاءَ ليُحرّر” ( لوقا 4 : 16 – 19). لو كنا في زمانه لسألناه ربّما: مِن ماذا تُحرّرنا؟ وما هي الحريّة هذه؟ لربما أجابَ “تعالوا وأنظروا…”. الجواب إذن، مسيرة وليس أمرًا مكتوبًا أو نظريّة رياضيّة. ومن طبع يسوع أنه لا يُجيب على الأسئلة! لدينا قصّة الشاب الغنيّ خيرُ مثال على أسلوب يسوع في تحرير الإنسان : فأمامَ الوصايا تظهرُ حريّة الإنسان (متى 19 : 16 – 26).
– الوصايا مهمــــــــة، لكنّ الله لا يُجبِر الإنسان على فعل الخير، ولا يمنعه عن فعل الشرّ. الوصايا دعوة إلى الضمير وإكتشافه.
– الحريّة ليست أن أعملَ أو لا أعمل، الحريّة هي “إمكـــانيّة” قبول أو رفض؛ أي: إمكانيّة دمار أو إمكانيّة بناء.
ولكنّ يسوع يدعو الشابّ إلى أبعد من الوصايا، ودائمًا يدعونا يسوع في الأنجيل إلى البعد والعمق والجوهر، ولا يوقفنا عندَ العتبة أو عند القشور! : إذا أردتَ أن تكونَ كاملاً، وهنا تدخلُ حريّة الشابّ في الإمتحان (فالحريّة أيضا إمتحان – محنة) فيسوع يحترمُ اختياره، وهذا الإختيار سيحدّد مسؤوليّته اللاحقة وفي ذلك مغامرةٌ فيها ربح وفيها خسارة، إنها “تجارةُ الملكوت” التي يفشلُ فيها أقوى جبابرة السوق (متى16 : 24 ).
كلّ لقاءات يسوع تبيّن إحترامه لهذه الحريّة، حتى إنه يعرضُ على تلاميذه أن يتركوه إذا لم يثقوا به… وقد تركه بعض منهم فعلاً ( يوحنا 6 : 66 – 67).
إنّ مفهوم الحريّة في زماننا يقعُ ضمن هذين القطبيـــن: تمجيدُ الحريّة إلى أبعد حدّ، أي قطب التسيـــــــــّب والإنفلات والفوضى والتمرّد. أو البقاء في عبوديّات وضغوط لا تحصى فيقعُ الناس في اليأس. أما في الإنفلاتُ أو الجمود، لكنّ الحريّة ديناميكيّة صعبة الفهم! ونحتاجُ لنور يسوع لكي يكشف لنا.
فما أكثر ما سمعنا الكلام عن حروب تحرير (ولدينا مثالٌ على ذلك – العراق، الأمريكان أتوا لتحرير العراق! لكن: مِن ماذا حُرّرنا!؟). الحريّة من أكثر الكلمات التي تتردّد على شفاه السياسيّين والحزبيّين والإداريّين… ولكن، أمام حالات صارخة في ظلمها وضرورة تنظيم المجتمع، لا بدّ من صراعات، من أجل الخروج من البؤس. أو الوعي بمخلّفات الإستعمار ومساوئ الإستغلال والظلم والقمع وتدخّل الأجنبيّ… كلّها حروبُ تحرير تلوحُ بأرض ميعاد وأوطان ضائعة. وهناكَ أيضا حروب شباب يطالبونَ بالتحرّر من كلّ سلــــــطة وأوامر ونواهي وضغوط؟ (في أيار 1968، رفع شباب فرنسا هذا الشعار : “الممنوع، ممنوع“). الحرية إذن، خروج من السجن، وما أكثر السجون الماديّة والمعنويّة، الواقعيّة وسجونُ المخيّلة والعوالم الإفتراضيّة والتقنيّات والعلم الحديث، الذي ربّما هو أيضا يتحوّل لسجنٍ مؤلم، والإدمان هو عبوديّة لشيء ما! فهو سجنٌ أيضا يحتاجُ لتحرير.
يقول الأسقف الدكتور يوسف توما مرقس: “الحريّة تولد عارية، وتحتاجُ إلى ملابس تغطّيها وتحميها وتحجبها وتحدد هويّتها“. كلمة الحريّة تحتاجُ لتعريف دقيق. فالإنسان هو الحيّ الوحيد الذي لا يأتي “مُبرمَجاً” وليس كلّه غريزة. فلا قضاء أعمى يقدّر مقاديره، وهو قادرٌ أن يحوّل مجرى الأحداث ويُسيطر عليها سيطرة فعليّة. أمّا الحيوانات، فهي “مبرمجة” بالغرائز. لكنّ الإنسان تقوده حريّته، والحريّة قدرة وإبداع وخلق من الإنسان على الإنسان، من ذاته على ذاته.
ولهذا، تحتاج الحريّة أيضا إلى شهود وإلى عاملين ومدافعين ورسل وتلاميذ….
يقولُ الفيلسوف اللبنانيّ رينه حبشي: “كلّ إنسان طبيعة ومغامرة، إذا احتقرت ما هو طبيعيّ، اختلّ توازن المغامرة، وإذا رفضتَ خوضَ المغامرة، اختنقت الطبيعة. في هذه النقطة، نفهم لماذا الحاضر يقرّر في ذات الوقت ما هو ماضي وما هو مستقبل. فالماضي يتّجه نحو الحاضر، وإنطلاقًا من الحاضر، يتّجه نحو المستقبل. الحاضر لحظةٌ مأساويّة تكمُن فيه كلّ الفرص، الحاضر المتتابع الذي يولد فينا كلّما استمرّينا في الحياة”.
ثالثا: الإنسان خاطئ والغفران هديّة له…
كثيرونَ اليوم لا يفكّرون بالخطيئة، بل ينسبون مشاكلهم إلى ما تلقونه من تربية، أو إلى مرض ما، أو كونهم ضحيّة قدر أو عين حاسدة أو نفس حاقدة… الخ. لكن الحقيقة في الإنجيل تقول لنا شيئاً آخر : كلّ إنسان خاطئ، لكنّ عظمــــته تكمُن في معرفته لذلك.
إنّ هذا الموضوع يحتوي كلّ سرّ الإنسان، سرّ القبول الذي يحييه أو سرّ الرفض الذي ينتحر فيه. وهذا واضحٌ في الكتاب المقدّس، فالخطيئة هي أصل كلّ تشوّهات الإنسان والعالم، يمكننا حصرها في أربعة:
1- إنقسام العائلة البشريّة
2- في العالم عدوانيّة
3- الموت قانون يفرض ذاته
4- الإنسان ممزّق من الداخل
الخطيئةُ، في عرف يسوع هي: تبريرُ الذات، عمى القلب، وتجاهُل إرادة الآب.
سنرى ذلك لاحقاً…
المراجع:
محاضرات لرهبنة الأخوة الواعظين الدومنيكان، المطران الدكتور يوسف توما مرقس