في لقاء الإنسان بالله، لا تكفي الكلمة، بل جزء من ذات الإنسان يستيقظ ويبدأ الإنشاد. رأينا في القسم الأوّل من قراءتنا لكتاب البابا بنديكتوس السادس عشر” روح الليتورجيّا”، بأنّ الموضع الذي تشغله الموسيقى الديانة البيبليّة يُقاس على أنّ الألفاظَ ” أنشدَ” أو ” النشيد” تظهرُ مرّات عديدة في العهدين. نُكمِل من حيث انتهينا…
في سياق التوتر التاريخيّ الكبير، نشأ نشيد إسرائيل الليتورجيّ، الذي سيظلّ عبور البحر الأحمر موضوعه الأساسيّ لمدحه الله. وللمسيحيّين، الخروج الحقيقيّ هو ” قيــــامة المسيح“: فقد اجتاز بالفعل ” البحر الأحمر” للموت، وانحدر إلى عالم الظلال، وحطّم أبواب الجحيم. ومعنى الخروج الحقيقيّ يوجد من جديد في العماد الذي يوحّدنا مع المسيح في انحداره إلى الجحيم وفي صعوده إلى السماء، ويُدخلنا إلى جماعة الحياة الجديدة.
محنة ثمّ تحرير : هذا هو الواقع المزدوج للخروج. وفي غداة تفجّر الفرح الذي تبع نجاة إسرائيل، اكتشف الشعبُ البريــــّة وتهديداتها (أخطارها)، التي ترافقهم مدّة طويلة بعد دخولهم إلى أرض الميعاد. وهذه المخاوف يليها التدخّل المتجدّد دومًا لقدرة الله التي بدورها تفسحُ المجال أمام نشيد موسى، وهذا برهان على أنّ الله ليس إلهـــًا للماضي، بل هو إله الحاضر والمستقبل.
يقول بنديكتوس، بالفعل، في كلّ نشيد يرتفعُ، يرنّ الوعيَ بعرضيّة هذا الخلاص، موقظا الشوق إلى نشيد جديد ونهائيّ، وخلاص لا تتبعه أيّ شدّة، ويرافقه التمجيد وحده. وفي الواقع الذي افتتحته قيامة المسيح، المسيحيّون، وهم مجتمعونَ في حضن ” الميثاق الجديد ” يعرفونَ الخلاص النهائيّ وينشدونَ الآن النشيد النهائيّ، ولو أنّ “بين الاثنين”، “الصورة” التي حلّت محلّ الظلّ، لكنها لم تصبح ملء الحقيقة بعد، هو ما يميّز أيضا المسيحيةـ إنّ النشيد النهائيّ لا شكّ قد أنشِد. إلاّ أنّ هذا لا يمنعنا من أن نحتملَ آلام التاريخ المتعددة، وأن نلقى كلّ ألمها، وأن نضعه تقدمة ، وقد تغيّر إلى نشيد الحمد.
هنا، قد وضِعَ الأساس اللاهوتيّ للنشيد الليتورجيّ (يقول بنديكتوس). ويعطينا الآن، البابا، بعده الواقعيّ (أي: النشيد الليتورجيّ).
بالإضافة إلى مختلف الشهادات التي يزوّدنا بها الكتاب المقدّس عن النشيد الفرديّ، فإنّ نشيد شعب إسرائيل، وموسيقى الهيكل، سيكون سفر المزامير مصدر اطلاعنا الرئيسيّ. وبغيــاب كلّ تأشيرة موسيقيّة، لا يمكننا أن نُعيد بناء ” الموسيقى المقدّسة” لاسرائيـــل. مع ذلك، يعطينا سفر المزامير فكرة عن غنى الآلات، وعن تنوّع أشكال الموسيقى الصوتيّة الممارَسة في إسرائيل. أناشيد كانت أم صلوات، فالمزامير تعرضُ كلّ جدول الخبرة البشريّة: الحزن، التشكّي، الإتّهام، والقلق، والرجاء، والثقة، والشكر، والفرح. إنّ الحيـــاة كلّها تنعكسُ في هذا الحوار مع الله. وإنّ هذه الأناشيد تنفجرُ إمّا من شقاء ليس ثمّ ما يبدو قادرًا أن يُنقذنا منه. فالله وحده يضحي الملجأ الوحيد، وإمّــا من ثقة تدري أنه حتى في أعماق الظلمات، يكونُ حدث البحر الأحمر وعدًا نهائيّا.
من المؤثّر أن نلاحظَ من التشكّي الذي تثيره شدّة لا مخرجَ منها، ينتهي تقريبًا ودائمًا في الثقة، وكأنه يستبقُ فعل الله المخلص. والمزامير التي غالبًا جاءت من خبرات شخصيّة جدّا من الألم أو من الإستجابة، فهي أيضا تستمدّ جوهرها من التربة المشتركة للأفعال التي حققها الله لشعبه، وهي تؤدي دائما إلى صلاة مشتركة لإسرائيل. ويعتبرُ البابا أن الأناشيد الجديدة هذه، هي مثل إختلافات عديدة لنشيد موسى الوحيد.
يتبع