يلتفتُ البابا بنديكتوس هنا نحو القضايا الأكثر عمليّــة. ويعطينا هنا الجذور اللغوية لكلمة ” أنشد ” في المزامير. يقولُ البابا، إنّ الكلمة تستمدّ جذورها اللغويّة من الجذع المشترك للغات الشرقيّة القديمة. وتشيرُ إلى نشيد ترافقه آلة (لربما هي وَتَريّة). وكان يرافقُ النشيد نصّ مزوّد بموضوع، ويُرتّل دون تغيير في الأنغام، ما عدا البداية والنهاية. وقد تَرجَم الكتاب المقدّس حسب الترجمة السبعينيّة الكلمة العبريّة ” زمير ” بكلمة ” رتّل” اليونانيّة” بينسر “، وهي تشيرُ إلى آلة ذات أوتار. ومن ثمّة فقد أشارت هذه اللفظة إلى العزف الموسيقيّ الخاص بالعبادة اليهوديّة، ثمّ إلى نشيد الكنيسة. نجدُ ذكره في بداية كلّ مزمور ٍ، وغالبًا ما تتبعه إشارة تعيد إلى طريقة تنفيذ دقيق جدّا، إلاّ أن معناه يبقى غامضا لنا. الإيمان البيبليّ طوّر هكذا، بالتناغم مع ماهيّته، شكلا من الثقافة الموسيقيّة ستُستخدم كنموذج ٍ لجميع الصيغ اللاحقة في الإنثقاف.
طُرِحَت سريعًا حدود هذا الإنثقاف على المسيحيّة الآولى، بنوع ٍ واقعيّ جدا ومع كتاب المزامير، كانت الجماعات المسيحيّة الآتية من المجمع قد تبنّت طريقة إنشاد إسرائيل. ولكن بعد ذلك بقليل، ظهرت ترانيم جديدة وأناشيد جديدة من أصل مسيحيّ. أوّلا: نشيد ” مبارك ” لزكريا، و ” تعظّم ” وكانا ما يزالان متّسمين بطابَع العهد القديم، ثمّ نصوص مركّزة كلّها على المسيح، ولا سيّما مقدمة إنجيل يوحنا (1 : 1 – 18)، ونشيد الرسالة إلى أهل فيلبّي (2 : 6 – 11)، والنشيد الوارد في الرسالة الآولى إلى طيموثاوس (3 : 16). وتزوّدنا الرسالة الآولى إلى الكورنثيين بمعلومات ٍ مهمّة حول سير الليتورجيّا المسيحيّة الآولى : ” أيها الأخوة، إذا اجتمعتم، قد يأتي كلّ منكم بمزمور أو تعليم أو وحي ٍ أو كلام لغات ٍ أو ترجمة، فليكن كلّ شيء ٍمن أجل البنيان”(14 : 26). بفضل ” بلينس ” والأخبار التي كان ينقلها إلى الإمبراطور، نعلمُ أنّ ” المجد ” كان في مطلع القرن الثاني يعود إلى نواة الليتورجيّا المسيحيّة.
هذه الأناشيد المسيحيّة، يقول بنديكتس، شجّعت تكوين أناشيد جديدة ومعها أنغام جديدة للنشيد. وإنّ إزدياد الإيمان المسيحيّ يعربُ عن ذاته أيضا بظهور أناشيد جديدة ” للروح القدس “، اعتبرتها الكنيسة مثل مواهب الروح. هذا الحماس عرّض الكنيسة الفتيّة لبعض الأخطار. ففي الحركة المزدوجة التي قادتها إلى الإنفـــصال عن جذورها الســـاميّة والإقتراب إلى العالم اليونانـــيّ، انفتحت المسيحيّة للتصوّف اليونانيّ للوغوس، ولشعره ولموسيقاه. وفي زاوية الأناشيد بالأخصّ، مارست الغـــنوصية تجربة قويــة على الإيـــمان الجديد، تحت طائلة ” إذابته ” في تصوّف غير محدّد. ونفهمُ أنّ هذه التجربة المميــــتة، التي كانت تهدّد بتدمير المسيحيّة من الداخل، أرغمت السلطات الكنسيّة على إتخاذ قرار جذريّ لإعادة التأكيد على الإيمان الجديد وتجذّره في الشخص التاريخيّ ليسوع المسيح.
القانون 59 من مجمع اللاذقيّة، يُبعد عن العبادة التجمّعات الشخصيّة والكتابات غير القانونيّـــة، والقانون 15 ، احتفظ بإنشاد المزامير لجوقة المزمّرين حصرًا. وهكذا فإنّ الأناشيد التي وضعها المسيحيّون الأوّلون، فــقِدَت بكاملها تقريبًا، واكتفوا من جديد بالنشيد الصوفيّ المحض، المستعاد من المجمع اليهوديّ.
يأسَفُ البابا هنا بسبب الإختيار هذا، الذي جعله الدفاع عن خير أعظم ضروريّا. والفقر الثقافيّ الظاهر، الذي أدّى إليه هذا الإختيار، أنقذ في الواقع هويّة الإيمان البيبليّ. في الوقت نفسه، فتح حقــلا ثفافيّا واسعا كان سيظلّ مغلقا أمام المسيحيّة لو أنها لم تعرف أن تنبذ إنثــقافا مزيّفــا. يتبع