تطرّقنا في القسم الرابع لجذور كلمة ” أنشد ” في المزامير. ورأينا أيضا قضيّة ” حدود ” الإنثقاف في المسيحيّة الآولى. وكيف مارست الغنوصيّة أيضا تأثيرها على الإيمان الجديد.
نتطرّق في هذا القسم الخامس حول تاريخ الموسيقى الليتورجيّــة. فهذا التاريخ، يقول البابا، يقدّم توازنــــــًا واضحا مع تاريخ الصورة المقدّسة. فبينما في الشرق كانت المسيحيّة البيزنطيّة تظلّ أمينة ً لتقليد الموسيقى الصوتيّة المنفردة، ففي المناطق السلافيّة، لا شك تحت تأثير الغرب، قد إزداد النشيد الإنفراديّ، حتى أصبح عديد الأنغـــام، وأعطى مجالا لنشأة تقليد من أجواق الرجال الذين، بالكرامة القدسيّة لنشيدهم، وقدرتخم المعتدلة يؤثرون في قلوب الناس، ويجعلونَ الإفخارستيّا عيدًا أصيلا للإيمان.
في الغرب، بلغ ترتيل المزامير التقليديّ درجة كبيرة من الكمال في النشيد الغريغوريّ، حتى أصبح هذا نموذج المرجعيّة الدائمة للموسيقى المقدّسة. وقد طوّر العصرُ الوسيط المتأخر طريقة تعدّد النغمات، وأدخل الآلات ( الموسيقيّة) مرّة أخرى في العبادة. وجرى الأمر بكامل المعرفة، بما أنّ الكنيسة لم تنبثقُ من المجمع حصرًا. ولكنّها تدمج أيضا حقيقة الهيكل، على ضوء ” فصح المسيح “.
يرى راتسنجر (بنديكتس السادس عشر)، أنه في نهاية القرون الوسطى، ظهرَ عاملٌ جديد كان سيَسِم بعمق موسيقى الكنيسة: الحريــــــة الفنيّة التي مارست تاثيرها حتى في العبادة. فتداخلت الموسيقى الكنسيّة والموسيقى العلمانيّة، فأنتجا هذه ” القداديس الساخرة ” حيث كان يُنشد نصّ القدّاس على نغم ” دنيــويّ ” حسب الموضة.
إن السماح بإبداع فنيّ وتبنّي مواضيع دنيويّة، لم يكونا بغير أخطار. فالموسيقى لم تكفّ عن البحث عن مصدرها في الصلاة فحسب، بل بتأثير هذا المقتضى الجديد للإستقلال الفنيّ، تركت قضايا الليتورجيّة. وإذ طوّرت احساسا ووعيًا جديدين ومختلفين فأدّى بها الأمر إلى أن تصبح غاية في حدّ ذاتها. وهذا الخطر.
يرى بنديكتس، إنّ هذا الخطر الذي كان يهدّد بأن يحيد الليتورجيّا عن ماهيّتها الحقيقيّة، أدّى إلى ردّة فعل المجمع التريدنتينيّ. فإنّ هذا المجمعَ أيضا أعطى الأولويّة للصوت الإنسانيّ في الموسيقى الليتورجيّة، وقلّص كثيرًا إستخدام الآلات. وبالإضافة إلى ذلك، وضع حدّا بصورة واضحة بين الموسيقى الدنيويّة والموسيقى المقدّسة، وهذا ما كان البابا القدّيس بيوس العاشر سيفعله بدوره، في مطلع القرن العشرين.
إن كان الأمر قد جرى بصورة مختلفة عند الكاثوليك وعند البروتستانت، فقد أفلح الفنّ الباروكيّ في تحقيق توحيد رائع بين الموسيقى الدنيويّة والموسيقى الليتورجيّة، إذ ركّـــز القدرة للموسيقى – وقد بلغت حدّا خارقا من الـكمال – على تمجيد الله. فسواءٌ سمعنا باخ أو موزرات في إحدى الكنائس، فنحنُ نشعر بنوع مدهش بما تعنيه عبارة ” مجد الله “. فإنّ سرّ الجمال اللامتناهي يتسرّب إلى أعماقنا ويجعلنا نحسّ بحضور الله بنوع ملموس أكثر مما بوسع عشر مواعظ أن تفعله. لكن، يتأسّف بنديكتس بإن هذا الإتزان غير المستقرّ بين الدنيويّ والمقدّس لم يستطع البقاء طويلا، حتى إذا كانت الذاتيّة والألم يُحترَمان مدة أخرى بتنظيم من كون موسيقيّ كان يعكس نوعًا ما نظام الخلق الإلهيّ نفسه.
كان ذوق البـــراعة يهدد من الآن، والتقنيّة التي وُضعت تدريجيّا في المقدمة، كفّت عن الإسهام في تناغُم المجموع. وفي القرن التاسع عشر، وهو قرنُ التحرّر من الذاتيّة، تفاقم هذا الميل، ورأى الناسُ أنّ اسلوب الأوبرا قد إجتاحَ الموسيقى الخاصّة. والخطر الذي كان المجمع التريدنتينيّ قد حاول إبعاده، ظهرَ من جديد، والبابا بيوس العاشر بدوره قاوَمه وحاول تحرير الليتورجيّا من هذا التيّار. والإنشاد الغريغرويّ وتعدد الأصوات الكبير في عصر التجدد الكاثوليكيّ (وفيه برز بالسترينا كشخصيّة عظيمة) أصبحا، من جديد، قاعدة الموسيقى الليتورجيّة في الغرب.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ بيوس العاشر تبّث بوضوح الإختلاف بين الفنّ الليتورجيّ والفنّ الديني بالعموم، ذلك في مضمار الموسيقى، كما في الفن التشكيليّ. فإنّ الفن الليتورجيّ يخضعُ بالفعل إلى معايير تحدّدها رسالته الخاصة، وهذا ما يتيح له أن يكون في مصدر ثقافة، في نهاية الأمر، هي مدينة ليتورجيا بوجودها.
يتبع