يضعنا هذا التساؤل، أمام واقع حياتنا، سواء في جمالها وبشاعتها، أو في قوتها وعجزها. فإذا كنّا نريد حقًا أن نحيا ميلاد الرب هذه السنة، فلنقم معًا كالمجوس برحلة حج نحو أرض الميلاد (راجع مت2، 1- 12)، مقدمين للرب لا ذهبًا ولبانًا بل حبًا وعبادة وخدمة. حجّ، يتطلّب قرارًا مسؤولاً، لأنه يفتح أمامنا الطريق المؤدية الى الحياة، فبفضله نجتاز حطام الذوات المتكسّرة والإخفاقات البشرية، الى إنسانيتنا مستوية من على مزودٍ حقيرٍ، حيث هناك نقرأ من جديد، ذاتنا الإنسانية، الذي بفضلها نطلّ على العالم. والسؤال، كيف تفهم إنسانيتك على ضوء حدث الميلاد؟ وماذا وجب عليك أن تفعله لتجعل من إنسانيتك ميلادًا لآخرين بحاجة الى رسالة الميلاد ؟
- بيئة وعلامة
يذكرنا الميلاد، بتلك العلامة التي طالما انتظرها الأنبياء والشعوب، إنه ولادة الطفل يسوع ، أعلنها الملاك للرعاة “ستجدون طفلاً مقمّطًا مُضجعًا في مزودٍ” (لو 2، 11). وبهذه العلامة تمّ الخلاص للعالم أجمع، علامة تميّزت بالوداعة والتواضع والفرح. إنسانية يسوع المسيح ابن الله الأزلي، محاطة بالضعف والفقر والعجز، ولكن بجوّ من التسبيح والفرح والعاطفة واللقاء والسخاء: إنها تسمى، ببيئة إنسانية الميلاد، أي الإطار الطبيعي الذي من خلاله، نعد إحياء حدث ميلاد طفل المغارة الذي دخل الى عالمنا، فتجلّى بخفرٍ، متّحدًا اتحادًا وثيقًا بالإنسانيّة، فصار هو ذاته إنسانًا “والكلمة صار بشرًا” (يو 1، 14). تسائلك، بيئة الميلاد، كيف تهيئ محيطك الذي أنت تحيا فيه؟ ما هي نوعية إستعدادتك الروحية؟ هل تملك مبادرة التضامن مع من هم أكثر ضعفًا؟ لقد دخل يسوع الفادي في عمق زمننا الإنساني الهشّ، فقدّسه وجعله “سنة يوبيلية” إبتهاجًا دائمًا بالرب (راجع، لو 4، 19)، وبفضل هذا اليوبيل الدائم، نحيا الإنفتاح نحو كل آخر يبحث كالمجوس عن الطفل الإله.
- هبة الإنسانية
يدعونا الميلاد الى التفكير مليَّا بهبة إنسانيتنا، نحن علامات رجاء للعالم كله. وبهذه الإنسانية- الهبة، يتجلّى لطف الله للبشر، لا بالبطش والعظمة بل بالضعة والفقر. ففي عالم لا يقبل بحقيقة الإنسان مسقطًا عليه التأله بمعزل عن الله (راجع، تك 2 و3)، لا يريد إلا إنسانية خالية من الضعف والوهن والعجز، إنسانية متفوقة مقتدرة لا تعرف الألم أو الشعور بالحرمان. ولكن عذرًا، هذه ليس بإنسانية إنها علامة تجارية، تصلح فقط لعالم التداول بالبورصة والبترول والسلع التجارية، حيث مكان لا يوجد فكرة الخسران الخصيب بل الربح الرهيب. وهنا يسائلنا حدث التجسّد، فما معنى الميلاد إذا وضعنا ذاتنا خارج حقيقة الإنسانية المنتمية الى الله؟ كيف نحيا الميلاد، ونحن بعداء مع ذواتنا مُتبنين روح العالم الزائل؟ ألم يقل لنا القديس يوحنا “العالم يزول هو وشهواته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبُت الى الأبد؟” (1يو 2: 17)؟ في الميلاد، يُكرّم الإنسان ولا يُهان، يتبارك الضعف وتتقوى الإرادة وتتجمّل النفس بنعمة التجسّد. إنه عرس النفس العروس مع الجسد/ العريس. إنتقال من رفض للذات نحو محبة حقيقية لها، علامة إنسانية ناطقة بالمحبة والفرح والإحترام. ففي هذه العلامة الوضيعة المعرّضة للتحطيم، تتأله بالمسيح الذي صار إنسانًا.
- امتحان الميلاد
يضعنا حدث التجسّد أمام امتحان لذاوتنا، فإما أن نحياه بالملء أو نكون كأهل قرية بيت لحم، الذين رفضوا استقبال ولادة الرب في بيوتهم (راجع، مت1، 25؛ لو 2، 7). إن الإنتماء الى الله الذي صار إنسانًا، هو المقياس الصحيح والسليم، لمدى إلتزامك الفاعل سواء في المجتمع أو الكنيسة. لا شك بأن المغريات كثيرة والحاجات متنوّعة والإهتمامات متزاحمة، أضف الى ضغط الإعلام السياسي الموجّه، القادر أن يغيّر المجتمعات بطريقة لا يتصورها العقل. الميلاد يدفعنا إذًا الى أخذ قرار جدّي لخياراتنا، أي العودة الى حقيقة التجسّد، القادر أن يُلهم خياراتنا إزاء الأزمات التي تمرّ بها إنسانيتنا. وهذا ما يجعلنا، نطرح من جديد أسئلة كبيرة، على نوعية وجودة إنتمائنا الى إخوتنا البشر.
- أسئلة للتأمّل
وانطلاقًا مما سبق، نسائل أنفسنا حول نوعية وجودة وقوّة إنتمائنا الى التجسّد :
- هل أنا راض على ذاتي ؟ ما هي نوعية حضوري في عائلتي ومجتمعي ورعيتي؟
- ماذا يعني أن أنتمي الى حدث التجسّد في عالم فقد حسّ التضامن والشركة والتعاون ؟
- ما هو دوري الحقيقي تجاه قضايا الإنسان المشروعة تلك التي لا تتناقض مع تعليم الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة؟( الحرية، والخير العام، والمناخ، والبيئة، والسياسة، والديمرقراطية، والفقر، والإستبداد إلخ).
في الختام، بقدر ما أجعل من ذاتي الإنسانية علامة لمحبة الله، بالقدر عينه، يتجلّى الله المحبة في إنسانيتي وفي واقعي ، وبالقدر عينه يصبح مجتمعي أكثر إنسانية بالرغم من وحشية أيديولوجيات الإستهلاك المتحوشة. يبقى حدث التجسّد، المقياس لإنسانيتي المدعوة الى النضوج، فكلما زدت نضجًا بإنسانيتي أترك البصمات التي لا تمحى من محبة وخدمة في تاريخ الأشخاص الذين أتفاعل معهم. القديسة تريزيا دي كالكاتا مثل على ذلك.