تسلّل العصر الجديد في العلوم وفي علم النفس (5(
العصر الجديد ينتحل زورًا صفة علم النفس ويخلطه بتقنيات من الشرق الأقصى وبفرضيات فلسفية لا إثباتات عليها بحسب المنهجية العلمية.
“إحترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنّهم من داخل ذئاب خاطفة !” (متى7/ 15)
كيف تسلّل الفكر الغريب شرقًا وغربًا
في ستّينيات القرن الماضي، إهتمّ أشخاصٌ كثيرون في الغرب بديانات الشرق الأقصى، مثل الهندوسية والبوذية والطاوية، وبممارسات وثنية خفائية قديمة مثل التنجيم والعرافة والسحر والأرواحية. تبلورت على أثر ذلك، حركةُ “العصر الجديد” وأخذت لها الشكل الذي نعرفه اليوم.
بدأتْ هذه الأفكار تنتشر أيضًا في مصطلحات علم النفس، لتصبح أكثر علمية وقبولاً في الغرب العقلاني. حتّى أنّها استعانت في بعض الأحيان، بمصطلحات مسيحية لتروّج لتعاليمها بين المسيحيين، فانتشرت بشكلٍ واسع في السبعينيات في أوروبا وفي غرب أميركا.
يشرح كتاب”الشيخ باييسيوس والغورو”[1] الذي يروي قصّة مشوّقة عن ارتداد شابٍ من اليوغا إلى الرب يسوع، الطريقة الخبيثة التي سُوّقت بها هذه المفاهيم الجديدة شرقًا وغربًا.
نقرأ في مقدّمة الكتاب:
“في المجتمعات الغربية، ذات الصبغة العلمية العلمانية البحتة، مثلاً يشكّل الفراغ الديني ملعبًا سهلاً، ومساحة غير محدودة، أمام اللاعبين من كافة المسوّقين لبضائع دينية سهلة المنال، وخاصةً إذا كانت هذه البضائع تُقدّم بلغة العلوم. فكلّ ما يُسوّق فيها على شكلٍ علميّ قد يرى رواجًا كبيرًا، لا وبل طلبًا عليه.
“أمّا في مجتمعاتنا الشرقية المتميّزة بالطابع الديني، فالأمر مختلف كلّيًا. فارتباط الشعوب الشرقية بمعتقداتها الدينية يجعلها أكثر تماسكًا في مواجهة التيّارات الدينية الغريبة المختلفة. لهذا السبب، فمن أجل اختراق هذه المجتمعات، حتمًا سيختلف أسلوب تقديم أيّ جديد، ولا بدّ أن يكون هذا الجديد تحت مسميّات خدّاعة تدغدغ عقد نقص هذه المجتمعات، ولكن بعيدًا عن الصبغة الدينية …
لهذا السبب لا نرى في مكان، في دعايات الدعوة إلى اليوغا، أيَّ تنويهٍ لارتباط اليوغا بالعبادة الهندوسية… الدعاية كلّها تجري في ملعب الجمال والصحّة والرشاقة واللياقات البدنية والهدوء النفسي، وتأثيرها على ضبط الذهن…”[2]
إذًا بهذه الطريقة المضلّلة إنتشرت بأشكالٍ متعدّدة، شرقًا وغربًا، أفكارٌ غريبة عن التقليد المسيحي. ونجحت هذه المعتقدات بشكلها الفلسفي العلميّ، في تضليلِ عددٍ كبيرٍ من الشباب المثقّف.
نذكر من هؤلاء عالم الإجتماع القبرصي الجنسية “كيرياكوس مركيذيس” الذي يروي لنا في كتاب “جبل الصمت”[3] كيف جذبته المعتقدات الغريبة في مجتمع أميركي متحرّر من القيود القومية والمحلية والمتعدّد الثقافات، حيث إنّ الدين خيارٌ لا قدَر فتحطّم ذاك الصمّام الإيماني الساذج الذي حفظَه لسنوات في الإيمان المسيحي.
قرأ مركيذيس لصوفيين وكتّاب من العصر الجديد مثل كتب كارلوس كاستانيدا (اهتمّ بالشمانية)، ألن واتس (فلسفة الشرق الأقصى)، هيلينا بلافاتسكي (التيوزوفية)، رودولف شتاينر(الأنتروبوزوفية)، جورج غوردييف (الباطنية والسحر) وحكماء من الهند مثل كريشنامورتي ومهاريشي ماهش. لكن أكثر ما جذبته هي الكتابات التي تخلط التصوّف بالعلم مثل أعمال فريتجوف كابرا Fritjof Capra الذي حاول أن يثبت التطابق بين علم الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية، مدّعيًا أنّ الفيزياء والميتافيزيقيا كلاهما يؤدّي إلى المعرفة ذاتها. بالفعل إنّ المحور الأساسي في كتابات كابرا كما في مجمل كتابات العصر الجديد، هو الإعتقاد بالحلولية وأنّ هناك ترابطًا خفيًّا بين كلّ الأشياء في الكون.
فيما بعد إنتقل مركيذيس تدريجيًا من اللاأدرية والمادية العلمية، إلى ممارسة اليوغا والتأمّل التجاوزي، لكنّ العناية الإلهية قادته في رحلة حجّ إلى جبل آثوس حيث تعرّف على روحانية الآباء هناك واستعاد إيمانه بالرب يسوع له المجد.
نذكر مثالاً آخر ما اختبره الأب جوزف ماري فرلندP. Joseph-Marie Verlinde الذي انجذب هو أيضًا بتأثير من تيّار العصر الجديد، إلى العلوم الكاذبة. فمارس التأمّل التجاوزي ثم أصبح إيزوتيريكيًا وخفائيًا، قبل أن يهتدي بنعمة الرب ويعود إلى إيمان الكنيسة الجامعة. ثم ارتسم كاهنًا وأسّس عائلة القديس يوسف في فرنسا. وهو حاليًا أستاذ الفلسفة في الجامعة الكاثوليكية في ليون، يجول العالم كلّه مبشّراً بالإنجيل، محاضراً ومحذّراً من تيّار العصر الجديد وممارساته.[4]
سنة 1988 صدر كتاب للأسقف كريستوفر شونبورن Christopher Schonborn بعنوان: “من الموت إلى الحياة، الرحلة المسيحية”، أعلن فيه أنّ ما يقارب 25% من المسيحيين في أوروبا يؤمنون بالتقمّص بتأثيرٍ من العصر الجديد. (وهناك إحصائيات أخرى تتكلّم عن نسبة أعلى تصل إلى 35%)
في مواجهة هذا الفكر الغريب الذي بدأ يتسلّل إلى قلوب وعقول المسيحيين، أصدرت الكنيسة عدّة توجيهات وإرشادات منها سنة 1989 رسالة إلى الأساقفة الكاثوليك “في بعض مظاهر التأمّل المسيحي”[5]، تشرح فيها جوهر التأمّل المسيحي وخصائصه وتحذّر المسيحيين من خطر الإستعارة غير الحكيمة لتقنيات التأمّل الشرقي الآسيوي.
وفي سنة 2003 صدرت وثيقة “يسوع المسيح الحامل الماء الحيّ”[6] وهي تأمّل مسيحي في تيّار العصر الجديد خلصت فيه إلى أنّ تعاليم هذا التيّار تناقض الإيمان المسيحي و أنّ كلّ تقنياته لا تناسب المسيحيين.
يتبع
لمجد المسيح
[1] راكوفاليس(أثناسيس)، الشيخ باييسيوس والغورو، عودة شاب من اليوغا الى الرب يسوع، نقله الى العربية الأرشمندريت د. سيرافيم كركور، مكتبة البشارة، بانياس، 2015
[2] المرجع السابق، ص 13-14
[3] مركيذيس (كيرياكوس)، جبل الصمت، بحثٌ عن الروحانية الأرثوذكسية، نقلته إلى العربية دينا فام أنطونيوس، منشورات دير رقاد والدة الإله، حمطوره، 2013
[4] لمن يهمه الأمر مراجعة موقع:www.Final-age.net
وكتاب:L’Experience Interdite, ed St Paul,Paris , 1998 Verlinde(p.Joseph-Marie),
[5]http://www.vatican.va/roman_curia/congregations/cfaith/documents/rc_con_cfaith_doc_19891015_meditazione-cristiana_fr.html
[6]http://www.vatican.va/roman_curia/pontifical_councils/interelg/documents/rc_pc_interelg_doc_20030203_new-age_fr.html