Barbara

في كنيسة القديسة بربارة

تأمّل

Share this Entry

في إحدى ضواحي نيقوسيا، حيث قضيتُ مؤخرًا إجازةً قصيرة، هناك كنيسة كبيرة باسم القديسة بربارة.

هي كنيسةٌ قديمة بحسب الطراز البيزنطي. بناؤها الخارجي من الحجارة الصفراء، مزدانة بالقبب ومغطاة بالقرميد.

ألفَتْ أجراسُها لسنين عديدة رنين الرصاص ودويّ انفجارات الحرب الأهلية  …

أمام باحتها الخارجية وُضع نصبٌ تذكاري لشهداء الحرب.

في أول مرة زرتها جلست على بنك حجري قبالة النصب الحزين وحاولت أن أقرأ أسماء مدوّنة باللغة اليونانية …

على بعد أمتار من الكنيسة، يعلو ستارٌ من التراب والحجارة ليسطّرَ الحدود مع الجهة التركية المقابلة.

هنا يحظّر عليك أن تأخذ صورةً فوتوغرافية لأسبابٍ أمنية …

حزينةٌ هي الأحياء المؤدية إلى كنيسة القديسة بربارة … بيوتٌ كثيرة هجرها أهلُها أو هم قُتلوا في الحرب، لها أبواب خشبية ملونة مقفلة وشبه مخلّعة.

أمام أغلب بيوتها أشجار من الحامض والاكيدينيا تغطي أغصانها واوراقها الجدران بشكل كثيف كأنها تحرص على حماية وحراسة ما تبقى من الأرزاق وما استحى من الذكريات المؤلمة أن يستعلن …

تلفتك القطط المنتشرة في كل مكان والتي لا تخاف أن تقترب منك بل هي تتقصد أن تلتف حول قدميك لتداعبها وتؤانسها في وحدتها.

صباح نهار سبت ربيعي، سمعت أجراس الكنيسة تقرع . فأسرعت بفرح لأشارك في القداس الإلهي.

دخلت بخشوع وورع وجلست تقريباً في وسط الكنيسة.

تتميّز كنائس قبرص الأرثوذكسية بمقاعدها الخشبية ذات المساند العالية. وخشبة المقعد التي تطوى متى رغبت في المغادرة أو الوقوف.

كان عدد المصلّين قليلاً وأغلبهم من النساء. جلست أمٌ وابنتها أمامي.

وسيدتان في منتصف العمر عن يميني. بعضهن غطّين رؤوسهن وبعضهن بقين مكشوفات الرأس.

شاركت في القداس مع أنه باللغة اليونانية. فالالحان البيزنطية هي نفسها في كل الكنائس الارثوذكسية. رددت في قلبي الصلوات كما حفظتها بالعربية.

لكنني لم أفهم بالطبع مضمون الرسالة والإنجيل. أصغيتُ بصمتٍ وخشوع وطلبت من الرب أن يفتح بصيرتي وينقي قلبي بقوة نعمته حتى ولو لم أفهم شيئا !

لما حل وقت التناول. تقدّمت بخشوع مع المتقدّمين. وأنا أنتظر دوري في صف طويل، لفتتني امرأةٌ سبعينية عن يميني ملتحفة بالسواد تحمل عصا خشبية وتتقدّم ببطء شديد. شعرها أبيض قصير يغطي الرقبة, ومع أن وجهها الى الارض، رأيت عينيها الحزينتين.  قلت في نفسي  هي أم لشهيد من شهداء الحرب المدون اسمه على النصب التذكاري …

سرتُ بتأنٍ وورع ولما حان دوري للتناول اغرورقت عيناي بدموع الفرح:

ها إنني أشارك مع أخوة لي في المسيح، في بلد غريب قداساً لا أفقه منه كلمة واحدة، لكنني أحفظه حفظا” في قلبي.

أشارك الأقداس مع أخوة لي معمّدين وممهورين مثلي بختم الحمل. ومجروحين مثل أبناء بلادي بجرح حرب أهلية كانت دامية!

“رحمة سلام ذبيحة تسبيح” !

“الاقداس للقديسين تعطى بالكمال والنقاوة والقداسة” ، شركة في المحبة!

شعرت بالاحراج لان دموعي فضحت مكنونات قلبي. فعدت بسرعة وجهي الى الارض لكنني  أكاد أطير من الفرح.

لقد سمح الرب من فيض رحمته أن يشركني في أقداسه وأن لا يحرمني منها أثناء سفرتي القصيرة الى قبرص.

فرحت جدا لانني شاركت في قداس في كنيسة  قابعة بعناد على خط تماس ومتجذرة في ارض متألمة ومجروحة في الصميم. ما زالت حتى اليوم تلملم جراحاتها وتعزي أمهات فقدْن فلذات أكبادهن في حرب متهورة مجنونة!

نيقوسيا مدينة جميلة وأجمل ما فيها شوارع “كايماكلي” المهجورة وبيوتها القديمة التي كتب على كل حجر فيها تاريخ دمٍ ودموع.

 عدتُ الى بيروت لكن جزءاً مني بقي معلّقاً، على مسند خشبي،

 في كنيسة القديسة بربارة،

في ضواحي نيقوسيا.

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير