في بعض أخطار الإيديولوجيات والتيّارات الفكرية الجديدة التي تهدّد الشباب وتجرفهم نحو الإنحراف.بعيدًا عن الإيمان المسيحي. منه ما له علاقة بالحداثة والتقدّم التكنولوجي والحضارة الرقمية وانحرافاتها، ومنه ما له علاقة بتقنيات السعادة الوهمية والعبادات الخاطئة للجسد وتأليه العقل. جميعها تقتلع الشباب من جذورهم فتدخلهم في دوّامة الصنمية القاتلة لإهلاك نفوسهم.
السعادة في المسيح !
في معرض حديثه عن النموّ والنضج، يلفت قداسة البابا نظر الشباب إلى خطر الإتكال فقط على القوة البدنية والقوة العقلية من أجل بلوغ السعادة والقداسة. وإلى ضرورة الحفاظ على التواصل مع الربّ يسوع، المصدر الحقيقي لكلّ نمو في القداسة. فيقول: “يهتمّ الكثير من الشبيبة بشأن أجسادهم، محاولين تنمية قوّتهم البدنيّة أو مظهرهم. ويجتهد آخرون بتنمية مهاراتهم ومعرفتهم، ويشعرون بهذه الطريقة بثقة أكبر. ويتطلّع بعضهم إلى ما هو أسمى، ويسعون إلى بذل المزيد من الجهد لتحقيق تنمية روحيّة. قال القدّيس يوحنا: “كَتَبتُ إِلَيكم أَيُّها الشُّبَّان: إِنَّكم أَقوِياء وكَلِمَةُ اللهِ مُقيمَةٌ فيكُم فقَد غَلَبتُمُ الشِّرِّير” (1 يو 2، 14). إن البحث عن الربّ، وحفظ كلمته، ومحاولة الإجابة عليها من خلال الحياة، والنموّ في الفضائل، يجعل قلوب الشبيبة قويّة. لذا، فمن الضروريّ أن تحافظ على “اتّصالك” بيسوع، وأن تبقى معه “على الخط”، لأنك لن تنمو في السعادة وفي القداسة بقوّتك وعقلك فقط. وكما تقلق تمامًا بشأن عدم فقدان اتّصالك بالإنترنت، تأكّد من أن اتّصالك بالربّ هو فعّال، وهذا يعني عدم مقاطعة الحوار، والإصغاء إليه، وإخباره بكلّ أمورك، وعندما لا تكون لديك فكرة واضحة عمّا يجب عليك فعله، اسأله: “يسوع، ماذا كنت لتفعل مكاني؟”(فقرة 158)
شبيبة لديهم جذور
إنّ أحد أسباب الضياع التي يعاني منها الشباب، هو انتشار الإيديولوجيات المتعدّدة الألوان، ينتج عنه فقدان المرجع والهوية والإنتماء والجذور. لذلك ينصح البابا بالتمسّك بخبرات التاريخ والأجداد. فيقول :
“يؤلمني أن أرى أنّ البعض يقترح على الشبيبة بناء مستقبل دون جذور، كما لو أنّ العالم بدأ الآن. لأنّه “من المستحيل أن ينمو المرء إذا لم يكن لديه جذور قوّية تساعده على الوقوف بثبات وتعلّقه بالأرض. من السهل أن نضيع عندما لا نملك مكانًا نتمسّك به، نثبت فيه”.(فقرة ١٧٩)
ويضيف قائلا”: “تأمّلوا بهذه الفكرة: إذا قدّم شخص ما لهم اقتراحًا وطلب منهم تجاهل التاريخ، وعدم الإستفادة من خبرة المسنّين، واحتقار كلّ الماضي، والنظر فقط نحو المستقبل الذي يقدّمه لهم، فليس هذا طريقة سهلة لحجزهم عبر اقتراحه حتى يفعلوا فقط ما يقوله لهم؟ هذا الشخص يريدهم فارغين مقتلعين من جذورهم، لا يثقون بأيّ شيء، كي يثقوا فقط بوعوده ويخضعوا لخططه. هكذا تعمل الأيديولوجيات المتعدّدة الألوان، التي تدمّر كلّ ما هو مختلف وبهذه الطريقة يمكنها أن تسود بدون معارضة. لهذا يحتاجون إلى شبيبة يحتقرون التاريخ، ويرفضون الغنى الروحي والبشري الذي نقلته الأجيال، ويتجاهلون كلّ ما سبقهم.(فقرة 181)
ويتكلّم البابا فرنسيس عن النظرة الخاطئة للجسد ويسمّيها “عبادة” الشباب ويقول:
“يستخدم المتلاعبون في الوقت نفسه، موردًا آخر: “عبادة” الشباب، كما لو أنّ كلّ شيء غير شابّ يصبح مكروهًا وعفا عليه الزمن. يصبح الجسم الشابّ رمزًا لهذه “العبادة” الجديدة، وبالتالي فإن كلّ ما له علاقة بهذا الجسم يصبح آلهة زائفة والكلّ يبتغيها بلا حدود، وما هو غير شابّ ينظر إليه بازدراء. لكنه سلاح ينتهي بإهانة الشبيبة أوّلًا، فهو يفرّغهم من القيم الحقيقية، ويستخدمهم للحصول على مزايا شخصية أو اقتصادية أو سياسية”.(فقرة 182)
وهنا يشير البابا إلى الذين يعدون بمستقبل لا شيخوخة فيه ( هنا نتذكّر وعود فكر عبر الأنسنةTranshumanism الذي يعد بإنسانية “مزادة” ومتفوّقة وبخلود الإنسان ). ويصفها أنها
“.. الإيديولوجية التي تحوّل الشباب إلى عبيد” .(فقرة١٨٤)
ويضيف البابا فرنسيس أنّ ” “العديد من آباء السينودس الآتين من السياقات غير الغربية يشيرون إلى أن العولمة في بلدانهم تنطوي على أشكال حقيقية من الاستعمار الثقافي، التي تقتلع الشبيبة من الانتماء إلى الحقائق الثقافية والدينية الخاصّة بهم. فمن الضروري أن تلتزم الكنيسة بمرافقتهم في هذه الخطوة دون أن يفقدوا أثمن سمات هويّتهم الخاصة”.(فقرة ١٨٥)
خطر النسبية وثقافة المؤقت
يميل شبابنا اليوم، بسبب انتشار ثقافة العولمة وإباحة المحرمات وباسم الحرية، وبإيحاء الفكر الجديد والعصر الجديد وسائر البدع العقلية المنبثقة عنها، الى المساكنة والعلاقات العابرة بمعزل عن أي ارتباط جدّي إجتماعي وكنسي. وهذا الأمر معروف ومخطّط له منذ عقود، هدفه تفكيك العائلة خصوصاً العائلة المسيحية نواة المجتمع والكنيسة. “وهي كشف وتحقيق على نحوٍ خاص للشركة الكنسية” و” أثرٌ وصورة لاتحاد الآب والابن في الروح القدس” (بند 2204 و 2205من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية)
يعلّق البابا فرنسيس على هذا الأمر ويقول:
” تسود اليوم ثقافة المؤقّت والتي هي وهم. فالاعتقاد بأن لا شيء يمكن أن يكون نهائيًا هو خداع وكذب. في كثير من الأحيان، “هناك من يقول إن الزواج اليوم قد “عفا عليه الزمن” […] ويعظ الكثيرون، في ثقافة المؤقّت، والنسبيّ، أن الشيء المهمّ هو “الاستمتاع“ باللحظة الحاضرة، وأن الالتزام طيلة الحياة لا يستحقّ العناء، ولا اتّخاذ خيارات نهائية. […] أمّا أنا، فأطلب منكم أن تكونوا ثوريّين، أطلب منكم أن تسيروا بعكس التيار؛ نعم، في هذا، أطلب منكم التمرّد ضدّ ثقافة المؤقّت، التي تعتقد، بعد كلّ شيء، أنكم غير قادرين على تحمّل المسؤولية، وتعتقد أنكم غير قادرين على المحبّة الحقيقية”. لكنني أثق بكم، ولهذا السبب أشجّعكم على اختيار الزواج.(فقرة 264)
قصة حب !
ويعطي قداسة البايا فرنسيس للشبيبة عرضاً بديلاً، حبًّا أبديًا، عطية الحياة الإلهية بالمسيح يسوع.
لأنّ “الحياة التي يعطينا إياها يسوع هي قصّة حبّ، قصّة حياة تريد أن تختلط بحياتنا وتترسّخ في أرض الجميع. وهذه الحياة ليست خلاصًا معلّقًا “في السحاب” في انتظار تنزيلها، ولا “تطبيقًا” جديدًا علينا اكتشافه، أو تمرينًا عقليًّا ناجمًا عن تقنيات النموّ الشخصي. الحياة التي يهبنا الله ليست حتى برنامجًا تعليميًا تصلنا به آخر الأخبار. بل الخلاص الذي يمنحه لنا الله هو دعوة لنكون جزءًا من قصّة حبّ تتداخل مع قصصنا. حبّ يعيش ويريد أن يولد بيننا حتى نتمكّن من أن نعطي ثمرًا حيث نعيش، وكيفما نكون، ومع من نكون. هناك يأتي الربّ ليلقي زرعه وليزرع نفسه”(فقرة 252)
أهمية التمييز
ويشدّد البابا فرنسيس في نهاية الإرشاد، متوّجهًا الى الشباب، على أهمية التمييز في كلّ المستويات الحياتية والروحية. وقد سبق وأشار قداسة البابا إلى هذا الأمر، في الإرشاد الرسولي “افرحوا وابتهجوا” حيث تكلّم عن الأخطار العديدة التي تهدّد قداسة المؤمنين ومنها الغنوصية الجديدة والبلاجيانية الجديدة.
” إنّ التمييز ليس بتحليل ذاتيّ متعجرف، ليس استبطانًا أنانيًّا، بل خروج حقيقي من ذواتنا باتجاه سرّ الله، الذي يساعدنا على عيش الرسالة التي دعانا إليها لصالح خير الإخوة.( افرحوا وابتهجوا. فقرة١٧٥)
” أذكّر أن الجميع معرّض، ولكن “بالأخصّ الشبيبة، لخطر “التنقّل” المستمرّ. فمن الممكن الانتقال بالتزامن، بين شاشتين أو ثلاثة، والتفاعل في الوقت نفسه مع سيناريوهات افتراضية مختلفة. دون حكمة التمييز، يمكننا أن نتحوّل بكلّ سهولة إلى دُمى ترضخ للميول الحاليّة”. و “هذا هامٌ عندما يتأتّى جديدٌ في حياتنا الخاصّة، ويجب بالتالي التمييز إن كان هو الخمر الجديدة الآتية من الله أم جديدًا خادعًا من روح العالم أو من روح الشرّير”(فقرة 279)
هذا التمييز، “حتى لو شملَ العقلَ والحكمةَ فهو يتخطاهما، لأنها مسألة رؤية سرّ التدبير الفريد والذي لا يتكرّر، الذي أعدّه الله لكلّ منّا. […] ما هو على المحكّ إنما هو معنى حياتي أمام الآب الذي يعرفني ويحبّني، المعنى الحقّ، الذي من أجله أقدر أن أهب حياتي، والذي ما من أحد يعرفه أكثر منه”(فقرة 280).
إذًا بالعودة الى الجذور الآبائية، إلى الإيمان الرسولي. بالحفاظ على وديعة الإيمان، تتجدّد الكنيسة بشبابها ومن أجل شبابها. وتكون لها كل الجدّة في عالم رقمي تتجاذبه الإيديولوجيات الهدّامة والفلسفات النسبوية وصنمية المادية وصلف الدهرية.
وحدها الكنيسة المقدّسة، الأمّ والمعلّمة، تحتضن أولادها في كنفها لتعيدهم الى شركة الثالوث، في القداسة وكمال المحبة. وهي سفينة الخلاص الوحيدة في عالم متخّبط ومحبط، تخلّى عن المرجعية الإلهية وسموّ الحق المعلن بالمسيح يسوع.
وفي الختام لقداسة البابا أمنية يتوّجه بها الى الشباب قائلاً: ” أعزّائي الشبيبة، سوف أكون سعيدًا برؤيتكم تركضون أسرع من أولئك البطيئين والخائفين. اركضوا “منجذبين بذاك الوجه الحبيب، الذي نعبده في القربان المقدّس ونراه في جسد الأخ المعذّب. إن الروح القدس يدفعكم في هذا السباق إلى الأمام. والكنيسة تحتاج إلى اندفاعكم، وحدسكم، وإيمانكم. إننا بحاجة إليها! وعندما تصلون إلى حيث لم نصِل بعد، فاصبروا وانتظرونا”(فقرة 299)