في أحد الإجتماعات صادفني حديث عن رجل طوى آخر أيامه على فراشه في توبة عن حياةٍ طويلة إعتنق فيها مذهب المتعة الطائشة. عاش سنين عديدة دون أن يفكر بالله أو يعطي خيارات الأخلاق أية أولوية. لكن سواد إقتراب الموت لم يجلب له الظلمة بل النور!! و في توبة صادقة إعترف بخطاياه، وطلب أسرار الكنيسة. بحسب من كان الأقرب لتفاصيل حياته، عاش فترة “غريبة” فيها الندم يخالطه السلام… و بهذا السلام أغمض عينيه عن حياة الأرض. و لكن ما أثار دهشتي لم يكن الخبر بل ردة الفعل التلقائية للمجموعة التي تسمع قصة إرتداد الرجل: “آه… المحظوظ! ربح الدنيا والآخرة” !!!
بحزن أدركت أننا في معظم الأحيان لا نفهم معنى نعمة الرب ولا معنى التوبة الصادقة. نحن تارةً كالإبن الأكبر في مثل الإبن الضال : نلتزم “البيت” ولكن قلبنا خارجه. و في رغبتنا الدفينة نتمنى ذاك “الضلال” ولا نقوم به. و حين يعود الضال نمتعض و نمنن ب”إستقامتنا”.
وتارةً أخرى نجعل من عودتنا من “الضلال” مجرد مخرج أخلاقي ضروري إستراتيجي لضمان ما قد نفقده من خير لمرحلة قادمة…
هذه المقاربة تثبت أننا لم نفهم لا قلب الله الرحيم في المغفرة ولا ميزة عطائه في “النعمة”.
في الواقع، علينا أن نتوقف كثيراً على جواب الأب لإبنه الأكبر: “كل ما لي هو لك” !!
أغسطينوس القديس الذي إختبر بعمق نعمة الرب ومغفرته، يبقى في توبته على مر الأجيال مثال لكل عائد من غربة الخطيئة الى بيت النعمة. لم تكن علامة التوبة الحقيقية في حياته مجرد إحساسٍ بالذنب، ولكن بالأكثر كان شعوراً بالحزن والأسف لأنه اتخذ في فترة من حياته منعطفًا خاطئًا أفقده السعادة الحقيقية؛ أما علامة العيش في النعمة لم تكن إحساسًا بقدرته الخاصة على أعمالٍ بطولية بل إستقبالاً وتفاعلاً مع النعمة التي أعطاه إياها الله.
لسنين طويلة سعى أغسطينوس إلى القبض على الحقيقة وفي بحثه مر على علوم عصره ولمع في الفلسفة. كما سعى الى القبض على السعادة والجمال فمر على ألوانٍ من أهواءٍ جامحة… لكن بعد بحثه المضني وجد رغبة قلبه في الله. لذلك يورد معلم الكنيسة في إعترافاته الشهيرة ما حرفيته “أن خطيئتي هي أنني بحثت عن السعادة والجمال والحقيقة ليس فيه (الله)، بل في نفسي ومخلوقاته الأخرى، و بدلاً من أن أجدها وجدت الألم والارتباك والخطأ.”
أغسطينوس العظيم، الذي نعيّد له اليوم، ذاك المعلم الذي يعُرف ب ” فيلسوف الكنيسة اللاتينية وأبو الأدب اللاتيني المسيحي” هو قبل كل شيء نفس تائبة حتى القداسة. فعلّنا نتبع خطاه ونميّز التوبة مسيرة فيها تحوّل جذري لإكتساب رؤية جديدة في علاقتنا مع ذواتنا والآخرين على أنوار محبة الله ورحمته و نعمته. من أغسطينوس فلنتعلم أن نجعل توبتنا لا مجرد مخرج أخلاقي فيه الكثير من (البارانويا) إنما مسيرة نعمة فيها تغيير الذات للأفضل = ( ميتانويا ) !