Pixabay CC0

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة

الجزء الثلاثون من سلسلة مقالات تسلل العصر الجديد

Share this Entry

يخشى، كما قلنا في المقالات السابقة، أن تتسلّل من خلال تقنيات التنمية البشرية، ممارسات وعقائد غريبة عن الإيمان المسيحي، مستوحاة بغالبيتها من فكر العصر الجديد ولا علاقة لها بتنمية القدرات البشرية. يحصل هذا الإختراق عادةً من خلال الخلط والإلتباس الذي قد يحصل في تسمية التقنية نفسها.

 نعطي مثالاً على ذلك: “الخريطة الذهنية” و”خريطة الكي” Mind Mapping and Qi Mapping

تدرّس تقنية “الخريطة الذهنية” ضمن برامج التنمية البشرية. أسّسها طوني بوزان Tony Buzan(1942-2019) ، سنة 1974 وهو مؤلّف في علم النفس الشعبيPopular Psychology وهي عبارة عن خريطة للمعلومات تُستعمل فيها رسومات بيانيةdiagrams  وتفرّعات branchingوخرائط نصف قطريةradial maps .   هدفها التعلّم لدى المربّين، المهندسين، المخطّطين وعلماء النفس من أجل تحفيز الذاكرة والتفكير النظري والعصف الذهني Brainstorming وحلّ مختلف الإشكاليات. التي يمكن أن تعترضهم. وهي ذات جذور قديمة استعملها مفكّرون مثل بورفيريوس من طيروس من القرن الثالث، الفيلسوف رامون لول من القرن الثالث عشر وغيرهم. إذاً هدف Mind Mapping بشكلٍ أساسي، تنظيم الأفكار والمعلومات وتصوّر هيكليات تساعد في إيجاد حلول ضمن مسار لصنع القرار في الشركات، المؤسسات التعليمية والحكومية الخ.

 هذه التقنية مفيدة جداً في تفعيل وتنظيم الكادرات من خلال تنمية مهارات القيادة والإدارة، بالإضافة إلى تقنيات أخرى ضمن تنمية القدرات البشرية وهي أصبحت واسعة الإنتشار ولها نتائج مشجّعة وبنّاءة على مختلف المستويات.

لكنّنا نصادف تحت تسمية مشابهة، تقنية أخرى لا علاقة لها البتة بالخريطة الذهنية اسمها “خريطة الكي” Qi[1] Mapping  وهي ترتكز على الطاقة الكونية المزعومة “كي” أو “تشي” المأخوذة من الإيمان الهندوسي والبوذي والطاوي الذي يقول بوجود طاقة حيوية تسوس الكون وهي أصل الوجود عندهم. وهي تتخلّل كلّ الأشياء وكلّ الكائنات والمادة أيضاً. هذا الإعتقاد أساسه إيمانهم بوحدة الوجود و الحلوليةPantheism والتي تعني أنّ “الكلّ هو الله”. والإعتقاد أنّ الكون أو الطبيعة والألوهة هما شيء واحد. يعني أنّ الكون هو الله وليس له وجود خارج الكون والألوهة موجودة في كلّ أجزاء الكون. والله عندهم ليس شخصاً ولا ثالوثا كما يؤمن به المسيحيون، بل طاقة لاشخصية موجودة في الجماد والحيوان والإنسان. لذلك كلّ ما في الكون بما فيه الإنسان هو إلهي وغير محدود.

إنطلاقًا من هذا المعتقد وبناء على هذا الوجود الإفتراضي والوهمي لهذه الطاقة، يتمّ وضع خريطة ينظّم بها الشخص حياته. ليس فقط حياته العملية بل أيضًا العاطفية والعائلية والعلائقية …

 لماذا اختار منشّطو حركة التنمية البشرية هذا العنوان بالتحديد؟ من أجل إضفاء لمسة علمية (كاذبة) على تقنيتهم فيتمكّنون بالتالي من الترويج لها بشكل أفضل وأسهل.

مثلاً نجد على أحد المواقع الإلكترونية خريطة الكي هذه بالإضافة إلى ممارساتٍ غيبية أخرى هي من التنجيم والعرافة لكن بتسميات غريبة: بازيBazi وزيريZeri  . بعد البحث والتنقيب تبيّن لنا أن “البازي” هو تسمية جديدة لممارسة وثنية قديمة هي توقّعات الأبراج الصينية أو التنجيم الصيني هدفها كشف المستقبل وهي تساهم في رسم خريطة الكي الوهمية. وال “زيري”هو من العلوم الميتافيزيقية أي من العلوم الخفية التي تتخطى علم الفيزياء وتمكّن من يتعاطاها أن يختار الوقت المناسب لكلّ أمر يوّد القيام به!

إذاً يُخشى أن تتسلّل عقائد غريبة عن التقليد المسيحي، من خلال تقنيات التنمية البشرية وفنون القيادة والإدارة فينفث عدوّ الخير السمّ في العسل. مثلاً تعاليم لها علاقة بالطاقة الكونية وعلاجاتها كالريكي والبرانيك هيلينغ وقانون الجذب والتفكير الإيجابي وغيرها. فيتوهّم الإنسان أنّ بمقدور أفكاره وقواه العقلية أن تجتذب كالمغناطيس الطاقات الإيجابية في الكون. هنا نتذكّر مقولة للروائي من العصر الجديد باولو كويللو يقول فيها: “عندما تريد شيئاً أو ترغب بشيء ما، فكلّ الكون سيساعدك في تحقيقه!”. يقصد هنا الطاقات والقوى الكونية التي تلبّي مشيئة الإنسان وليس الله !

من جهة أخرى، من الواضح أنّ تسمية فنون ومهارات القيادة والإدارة مفيدة ضمن الشركات التجارية والمؤسّسات الحكومية وغير الحكومية والأعمال والمصارف. وهنا نتساءل كم تصحّ هذه التقنيات في الحياة الروحية ومتى تمادينا فيها في تنشئة ما يطلقون عليه اسم “الذكاء الروحي” أو “القيادة الروحية”…

 تعلّمنا الكنيسة المقدّسة أنّ الروح القدس هو الذي يقودنا في الحياة الروحية لنكون هيكلاً له فنتقدّس بنعمة الله.

آباؤنا القدّيسون لم يتابعوا دورات في فنون الإدارة والقيادة ولم يتعلّموا البرمجة اللغوية العصبية ولا التنويم الإيحائي ولم يمارسوا السوفرولوجي ولم يشتركوا في دورات عن التاسوعيةEnneagram ليكون لديهم ذكاء روحي، ولم يستوردوا تأمّلاً شرقياً ليبتدعوا تأمّلاً مسيحيًا هجينًا مع العلم أن الكنيسة المقدسة قد حذّرت من هذا الخلط في تعاليمها.[2]

 لقد كانوا بسطاء في الروح، مصلّين، أتقياء،خاشعين وتائبين. لقد ذرفوا دموعاً وسكبوا دمًا، تقشّفوا وتنسكّوا في البراري، سكنوا المغاور والكهوف، حفروا الصخور بأيديهم وبنوا القلالي بالتعب وسهر الليالي محبةً بالمسيح. لقد كانوا إنجيلاً حيًا بين البشر . نتذكّر خوري آرس الذي كان بالكاد يفهم العلوم اللاهوتية، لكنّه جلس لساعات طوال في كرسي الإعتراف، وسجد ليال طويلة في الكنيسة، فجذب بتقواه ومحبته وطاعته للمسيح ألوفاً من الناس إلى التوبة والإيمان.

تقول القديسة تيريزا الأفيلية: “لا تفكر كثيراً بل أحبّ كثيراً ! “

لأنه “وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكلّ علم، …

 ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً” (1كو13/ 2) .

حقاً !

يتبع

[1] بالاضافة الى QI Mapping هناك تسميات أخرى مثل: Metaphysical Mapping, Meta Map,etc  كلها يروج لها على انها من التدريب المهني وهي في الحقيقة من الباطنية والمعتقدات الشرق الاقصى والكابالا والماورائية وتروج لقدرات خفائية وللطاقة الكونية ولأولوية لحدس وهي ليست علما بل خيالات وأوهام.

[2] أنظر رسالة الى الاساقفة الكاثوليك في بعض مظاهر التأمل المسيحي، مجمع عقيدة الايمان، 1989

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير