CC0- Pixabay creative commons

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة (34)

رأي كاثوليكي في التنمية البشرية (11)

Share this Entry

من إشكاليات التنمية البشرية: هل تساعد التنمية البشرية Le développement Personnel  في أن نصبح قدّيسين؟؟؟

لا يستطيع الإنسان العيش من دون محبة!

تكلّمنا في المقالة السابقة، عن القداسة و”التنمية البشرية المتكاملة” أو “الأنسنة المتكاملة” التي تدعو إليها الكنيسة في تعليمها الإجتماعي، وأشار إليها الباباوات في إرشاداتهم الرسولية ورسائلهم، بدءًا برسالة “الشؤون الحديثة” للبابا ليون الثالث عشر سنة 1891 إلى يومنا هذا. هذه “التنمية البشرية المتكاملة” التي تدعو إليها الكنيسة، تتخطّى كلّ فكرٍ بشريّ وكلّ تنمية بشرية ممكنة لأنها تطال الإنسان ككلّ، الإنسان بمنظور الوحي الإلهي المخلوق على صورة الله ومثاله. هي تنمية بشرية “إلهية” بالتوافق مع مشروع الله الخلاصي لكلّ إنسان وبحسب تدابيره الفائقة الوصف، بالآب والإبن والروح القدس، بما أنّنا “أبناء الله” (1كو3/ 9). لأنّه “متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض” (1كو13/ 10).

إذًا هي ليست مجرّد كمال بشريّ بل هي كمال في المحبة، “لقاء جديد مع حبّ الله” (البابا فرنسيس)، بالتحامٍ كياني بسرّ تجسّد وفداء الرب يسوع له المجد. “بالإيمان العامل بالمحبة” (غل5/ 6)، “إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح!” (أف4/ 13)

يقول تعليم الكنيسة الإجتماعي إنّ مدينة الإنسان تكون أكثر إنسانية عندما تتطابق مع ملكوت الله (كمبنديوم تعليم الكنيسة الإجتماعي، 63). وملكوت الله ليس أكلاً وشربًا بحسب تعبير القديس بولس “بل هو برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو14/ 17). هو ملكوت النعمة والحقيقة، ملكوت المحبة والعدالة، ملكوت السلام وحرّية أبناء الله. لأنّ “الله محبة” (1يو4/8).

“لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون محبة ويبقى لغزًا لا يُفهم في عين نفسه، ولا معنى لحياته، إنْ لم تتوفّر له المحبة، إنْ لم يجدها، ويختبرها بنفسه ويشارك فيها مشاركةً حميمة. ولهذا السبب أظهر المسيح الفادي تمامًا على ما أشرنا إليه، الإنسان للإنسان عينه، وهذا هو البُعد البشريّ لسرّ الفداء “إذا صحّ التعبير” وهذه هي ميزته. وفي هذا البُعد يكتشف الإنسان مجدّدًا وشيئًا فشيئًا ما للإنسانية من عظمة وكرامة وقدر خاص. وفي سرّ الفداء “يكوَّن” الإنسان من جديد ويُخلق نوعًا ما خلقًا جديدًا… إنّ الإنسان الذي يتوق إلى معرفة أغوار نفسه، لا وفقًا لمقاييس عابرة ناقصة وفي غالب الأحيان خارجية وحتّى ظاهرية، أو وفقًا لقواعد حياته فقط، عليه أن يلوذ بالمسيح حاملاً إليه قلقه وشكّه، ضعفه وخبثه، حياته وموته. عليه أن يدخل فيه بكلّيته تقريبًا وبكلّ ما هو. عليه أن “يمتلك” ويتّخذ لذاته حقيقة التجسّد والفداء بكاملها، لكي يعود فيجد نفسه. فإذا أتمّ الإنسان هذا التحرّك الحميم في نفسه أثمر لا ثمر العبادة لله وحسب، بل ثمر الإعجاب بنفسه أيضًا. فأيّ قدر عظيم هو قدر الإنسان في عين الخالق إذا كان “استحق مثل هذا الفادي”؟

(البابا يوحنا بولس الثاني، فادي الإنسان، 1979، 10)

المحبة لها اسم ٌ!

والمحبّة المسيحية ليست مبدأً من عالم المثل أو موقفاً أخلاقياً أو فكراً فلسفياً ما، بل هي شخص المسيح نفسه، الإله والإنسان. “لقد كشف إله الخلق نفسه، أنّه إله الفداء أي الله “الوفي لذاته” أعني الوفيّ لمحبّته التي أظهرها للناس وللعالم يوم الخلق. ومحبّته هذه لا تحجم عن كلّ ما تقتضيه منه العدالة. ولهذا جعل الله الإبن “الذي لم يعرف الخطيئة خطيئةً من أجلنا”. وإذا كان قد “جعل خطيئة” ذاك الذي لم يعرف يومًا الخطيئة، فقد فعل ذلك ليظهر المحبة التي هي أكبر من جميع المخلوقات، أجل المحبة التي هي الله بذاته “لأنّ الله محبة”. ولكنّ المحبة على الأخصّ هي أكبر من الخطيئة والضعف وأباطيل الخليقة. إنّها أقوى من الموت، والمحبة على استعداد دائم للإنهاض وللمسامحة وللذهاب إلى لقاء الابن الضال وللبحث عن “تجلّي أبناء الله” المدعوّين إلى المجد. ويُسمّى تجلّي هذه المحبة أيضًا رحمة وأخيراً قد اتّخذ تجلّي هاتين المحبة والرحمة في تاريخ البشر شكلاً له واسماً: إنّه يُدعى يسوع المسيح.”

(البابا يوحنا بولس الثاني، فادي الإنسان، 1979، 9)

إذاً إنّ خدمة المحبة والرحمة هي جوهر رسالة كنيسة المسيح في قلب العالم، بعيدًا عن أيّ انتهازية واستهلاكية ومنفعية وتهافتٍ على الخيرات والتحكّم بعقول وأهواء الناس.

إنّ كلّ نشاط الكنيسة هو تعبيرٌ عن الحبّ الذي ينشُد الخير الكامل للإنسان: تنشد تبشيره بالكلمة والأسرار، إنّها مهّمة غالبًا ما هي بطولية في إنجازاتها التاريخية. وتنشد ترقّيه في مختلف ميادين الحياة والعمل الإنسانيين. الحبّ إذاً هو الخدمة التي تؤمّنها الكنيسة كي تذهب على الدوام إلى أمام عذابات الناس وحاجاتهم حتى المادية منها“.

(البابا بندكتس السادس عشر، الله محبة، 2005، 19)

إنّ النموّ من أجل بلوغ إنسانية متكاملة حقيقية، لا يكون بواسطة تقنيات وتدريبات عقلية ونفسية تبغي خيرات أرضية وقتية محورها الأنا وروحانية بديلة قاصرة، بل بالتحامٍ كياني بسرّ تجسّد وفداء الرب يسوع له المجد، باللقاء مع محبة الله عندما نسلّم له قيادة حياتنا بالكامل.

“فقط بفضل “اللقاء الجديد” مع حبّ الله، الذي يتحوّل صداقة سعيدة، نتحرّر من ضميرنا المنعزل والمرجعية الذاتية. ونتمكّن من أن نكون إنسانيين كليًا، عندما نكون أكثر أنسنة، عندما نسمح لله بأن يقودنا إلى ما أبعد من ذواتنا، كي نبلغ كياننا الأكثر حقيقة. هنا يوجد ينبوع عمل التبشير بالإنجيل لأنّه، إذا كان المرء قد تقبّل هذا الحبّ الذي يُعيد إليه معنى الحياة، فكيف يمكنه أن يلجم الرغبة في إطلاع الآخرين عليه؟”

(البابا فرنسيس، فرح الإنجيل، 2013، 8)

 في العلوم الإنسانية محدودية، أمّا في علم الصليب فتقديس وسموّ وارتقاء يتخطّى كلّ محدودية بشرية وكلّ انحراف صوب غنوصية ما أو عرفانية أو باطنية. نحن أبناء النور تسبحة لمجد الله، في المسيح مبدئ حياتنا ومخلّصنا، هو الكلّ في الكلّ! آمين!

المجد للمسيح !

– يتبع –

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير