Audience générale du 14 novembre 2018 © Vatican Media

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة (44): البيلاجيون الجدد ونعمة الربّ المؤلّهة

رأي كاثوليكي في التنمية البشرية (21)

Share this Entry

البيلاجيون الجدد ونعمة الربّ المؤلّهة!

تكلّمنا في المقالات السابقة عن البيلاجية المعاصرة التي حذّر منها البابا فرنسيس وهي تنطبق على تقنيات التنمية البشرية التي تعوّل كلّ شيء على الجهد البشري وتعتبر أنّ للإنسان قدرات لا محدودة ولا متناهية عليه اكتشافها وتنميتها.

مثلاً يتكلّم كاتب تيّار “العصر الجديد” ديباك شوبرا Deepak Chopra بتأثيرٍ من نظرية التطوّر الإلحادية، عن “بشرٍ متفوّقين” يسمّيهم Meta humans. فيدّعي أنّ الإنسان في تطوّر دائم وصولاً إلى الإنسان الكامل الذي له قدراتٌ فائقة للطبيعة، هي كامنة فيه من الأساس وعليه إيقاظها. فالإنسان بنظره يتوهّم أنّه محدود، بينما له “وعي هو الكون نفسه!” يتخطّى به المكان والزمان وكلّ محدودية فيزيائية. وليُضفي مصداقيةً على فرضيّاته غير العلمية، يستعمل “شوبرا” مصطلحات من فيزياء الكوانتا ونظرية النسبيّة لأينشتاين يخلطها بمقولات للشاعر ويليام بليك، كما يتكلّم عن أهمية تعاطي المنشّطات psychedelics لتوسيع الوعي!

هذا التعليم أنّ للإنسان قدرات لا محدودة، أصبح رائجًا بشكلٍ واسع بين مدرّبي الحياة Life Coach ومروّجي تقنيات التنمية البشرية. في الشكل، يبدو كلامهم تحفيزيًا لا ضرر فيه، كأنْ يشجّعوا على الإتكال على النفس والثقة بالقدرات الشخصية والمبادرات الفردية والتفاؤل وغيرها. لكن كلامهم كالسمّ في العسل، لأنّه يتمادى بتأثيرٍ من فكر العصر الجديد، ليوهم الشخص أنّ بإمكانه تحقيق كلّ شيء بنفسه وبجهده وحده. فنادراً ما يتكلّم هؤلاء عن دور الإيمان والعناية الإلهية ومشيئة الله، وإذا ما ورد شيء من هذا في أحاديثهم، فإمّا أنّه جاء سهواً أو بقصد التمويه في حال كان لديهم نوايا مبيّتة بسبب جهلهم لتعاليم الكنيسة.

يذكّرنا البابا فرنسيس بتعليمٍ مهمٍّ جدًا من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية يحذّر من خطر التمحور حول الذات والإتكال المفرط على الجهد الشخصي والبرارة الذاتية، وهو تعليمٌ آبائيّ غالباً ما نهمله وننساه، فيقول:

لقد علّمت الكنيسة مرارًا أنّنا لا نتبرّر بواسطة أعمالنا أو جهودنا، وإنّما بنعمة الربّ الذي يأخذ المبادرة. وقد عبّر آباء الكنيسة بوضوح، حتى قبل القدّيس أوغسطينوس، عن هذه القناعة الرئيسيّة. وكان القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم يؤكِّد أنَّ الله يسكب فينا ينبوع جميع المواهب “قبل أن ندخل في المعركة”. أمّا القدّيس باسيليوس الكبير فلاحظ أنَّ المؤمن يفتخر في الله فقط لأنَّه “يعترف أنّه لا يملك البرَّ الحقيقي وأنّه يُبرّر فقط بواسطة الإيمان بالمسيح” (افرحوا وابتهجوا، فقرة 52).

ويلفت البابا إلى أهمية تعاون الإنسان مع نعمة الله لينموَ روحيًا، إلاّ أنّ هذه النعمة لا تُشترى لأنّها عطيّة من الله مجانيّة لا يمكننا التحكّم فيها وهي تتخطّى قدراتنا وذكاءنا الشخصي وحتى قوّة إرادتنا. هذا الأمر الأساسي يغيب عن مروّجي تقنيات السعادة وأتباع البدع المعاصرة.

 يقول البابا فرنسيس: يذكِّرنا التعليم الديني المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة أيضًا أنَّ عطيّة النعمة “تتخطّى قدرات الذكاء وقوّة إرادة الإنسان” ، وأنّه “إزاء الله، بالمعنى القانوني البحت، لا يوجد استحقاق من قبل الإنسان؛ إذ أنَّ عدم المساواة بينه وبيننا لا قياس لها”. إنَّ صداقته تتخطّانا بشكل لا متناهٍ، ولا يمكننا أن نكتسبها بواسطة الأعمال الصالحة بل هي فقط عطيّة لمبادرة محبّته. هذا الأمر يدعونا إلى العيش بامتنان فرِح على تلك الهديّة التي لن نستحقَّها أبدًا، إذ أنّه “عندما يكون الإنسان في حالة النعمة، لا يمكن للنعمة التي نالها أن تكون مُستحقّة”. إنَّ القديسين يتحاشون أن يضعوا ثقتهم في أعمالهم: “في مساء هذا العمر، سأمثل أمامك فارغة اليدين، لأني لا أسألك، يا ربّ، أن تأخذ أعمالي بعين الاعتبار. لأنَّ البرّ الذي فينا، لا يخلو من العيب في عينيك” (افرحوا وابتهجوا، فقرة 54)”

إنّ العلم لن يغيّر العالم بل المحبة!

إنّ التغيير والتحوّل المطلوبيْن اللذين ينشدهما الإنسان، لا يكونان بزيادة المعارف وتنمية القدرات وإعمال العقل والذكاء، بل بقوّة المحبة الإنجيلية، المحبة الشافية وحدها. يقول القدّيس الطبيب “جوسيف موسكاتي”: “إنّ العلم لن يغيّر العالم بل المحبة، الله المحبة !” إنّ كلّ صلاح وخير، حتى الحرية هي عطايا من الله، لذلك لا نخال إننّا اكتسبناها بجهدنا أو هي منّا. وحده الإنتماء الى الله وتسليمه قدراتنا بتواضع، يجعلنا ننمو في المحبة بحسب مشيئة الله بلوغاً الى النموّ المتكامل أيّ إلى القداسة. يؤكّد البابا فرنسيس على ذلك ويقول:

إنّها إحدى أكبر القناعات التي اكتسبتها الكنيسة نهائيًّا، ويُعبَّر عنها بوضوح كبير في كلمة الله لدرجة أنها أصبحت مسلّمًا بها. وهكذا كوصيّة المحبّة العظمى، على هذه الحقيقة أن تطبع أسلوب حياتنا، لأنها تنهل من قلب الإنجيل وتدعونا لا لأن نقبلها بالعقل وحسب وإنما لأن نحوِّلها إلى فرح مُعدٍ. مع ذلك لا يمكننا أن نحتفل بامتنان بهديّة صداقتنا مع الربّ المجانيّة إن لم نعترف أنَّ حياتنا الأرضيّة وقدراتنا الطبيعيّة هي عطيّة. نحن بحاجة لأن “نعترف بفرح أنَّ واقعنا هو ثمرة عطيّة، وأن نقبل أيضًا حريّتنا كنعمة. هذا هو الأمر الصعب في يومنا هذا، في عالم يعتقد أنّه يملك شيئًا من تلقاء ذاته، كثمرة لإبداعه أو لحريّته”.

إنطلاقًا من عطيّة الله فقط، والتي نقبلها بحريّة وننالها بتواضع، يمكننا أن نتعاون مع جهودنا لنسمح بأن نتغيَّر أكثر فأكثر. إنّ الأمر الأول هو الانتماء إلى الله. وهي مسألة تقديم ذواتنا له هو الذي سبقنا في تقديم ذاته، وأن نسلِّمه قدراتنا والتزامنا وكفاحنا ضدَّ الشرِّ وإبداعنا لكي تنمو عطيّته المجانيّة وتتطوّر في داخلنا: “إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله” (روم ١۲، ١). من جهة أخرى علّمت الكنيسة على الدوام أنَّ المحبّة وحدها تجعل النمو في الحياة الروحيّة ممكنًا لأنّه “إن لَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا بِشَيء” (١ قور ١۳، ۲).” (افرحوا وابتهجوا فقرة 55 و56)

البيلاجيّون الجدد

يشرح البابا فرنسيس بإسهاب إنتهاكات بعض المسيحيين، فيتكلّم بشكلٍ مباشر عن بعض الذين يهمّشون عمل النعمة باتّكالهم المفرط على جهدهم وبراراتهم الشخصية. هؤلاء هم البيلاجيون الجدد في الكنيسة.

هناك أيضًا مسيحيّون يلتزمون في إتباع مسيرة أخرى: مسيرة التبرير بواسطة قواهم، ومسيرة عبادة الإرادة البشريّة وقدراتها التي تُترجم في رضى عن النفس أنانيّ ونخبويّ خالٍ من الحبّ الحقيقي. يظهر بتصرّفات عديدة متفاوتة فيما بينها ظاهريًّا: الهوس بالقانون وسحر إظهار المكتسبات الاجتماعيّة والسياسيّة، والتباهي في العناية بالليتورجيّة وبالعقيدة وبهيبة الكنيسة، والغرور الناجم عن إدارة مسائل عمليّة، والانجذاب إلى ديناميكيّات المساعدة المتبادلة فيما بينهم والقيام بإنجازات ذاتيّة المرجعيّة. فيبدّد بعض المسيحيّين طاقاتهم ووقتهم في هذه الأمور بدلاً من أن يسمحوا للروح القدس أن يقودهم في درب الحبّ وبدلاً من أن يُشغفوا بنقل جمال وفرح الإنجيل وأن يبحثوا عن البعيدين في تلك الجموع العديدة المُتعطّشة للمسيح”. (افرحوا وابتهجوا، فقرة 57)

حياة الكنيسة ليست قطعةً فنية في متحف!

كلّ هذه الإنحرافات تُدخلنا في تعقيدات ودهاليز تتناقض مع جذرية وبساطة الإنجيل، لنصبح سجناء هيكليات وأنماط تقيّدنا وتمنع عنا حرية أبناء الله. يقول البابا فرنسيس:

إنّ حياة الكنيسة في الكثير من الأحيان، وضدّ دفع الروح القدس، تتحوِّل إلى قطعة متحف أو إلى ملكيّة للقليلين. هذا الأمر يحدث عندما تعطي بعض المجموعات المسيحيّة أهمّية مفرطة لإتّباع قوانين معيّنة خاصّة بالمجموعة أو لعادات وأنماط. وغالبًا ما يُختَزَل الإنجيل بهذا ويُكبح إذ تُنتزع منه بساطته الساحرة ومذاقه. إنه ربما شكل حاذق من البيلاجيّة، لأنّه يبدو أنّه يُخضع حياة النعمة لبعض الهيكليات البشريّة. هذا الأمر يطال مجموعات وحركات وجماعات وهذا ما يشرح لماذا يبدأون مرّات عديدة بحياة عميقة في الروح وينتهون متحجِّرين… أو فاسدين”. (افرحوا وابتهجوا، فقرة 58)

وينصح البابا فرنسيس بالإعتدال وأن ننقاد بعمل النعمة، حتى لا تتحوّل عبادتنا إلى صنميّة واستعباد.

إننّا وبدون أن نُدرك، ولكوننا نظن أنّ كلَّ شيء يتعلَّق بالمجهود البشريِّ الذي توجِّهه قوانين وهيكليات كنسيّة، فإننا نُعقِّد الإنجيل ونُصبح عبيدًا لمُخطّط يترك القليل من المجال للنعمة لتعمل. يذكِّرنا القديس توما الأكويني أنَّ المبادئ التي أضافتها الكنيسة على الإنجيل يجب أن تُطلب باعتدال: “لكي لا نجعل حياة المؤمنين صعبة”، لأنّ بهذا الشكل تتحول ديانتنا إلى استعباد”. (افرحوا وابتهجوا، فقرة 59)

ويقترح البابا معايير ومخارج لتحاشي طغيان أشكال الغنوصية والبيلاجية الجديدة. أولاً بالإيمان العامل بالمحبة (فقرة 60)، ثانياً بطاعة وصيتيْ محبة الله ومحبة القريب (فقرة 61) ثم ينصح قائلاً:

 “ليُحرِّر الربّ الكنيسة من الأشكال الجديدة للغنوصيّة والبيلاجيّة التي تُعقِّدها وتوقفها في مسيرتها نحو القداسة! إنَّ هذه الانحرافات تَظهر بأشكال مختلفة بحسب مزاجها وميزاتها. لذلك أحُثُّ كلَّ فرد منكم على أن يسأل نفسه ويميِّز أمام الله كيف يمكن لهذه الأمور أن تظهر في حياته”. (افرحوا وابتهجوا فقرة 62)

لنخرجْ فنختبرَ مسحتنا !

“هكذا ينبغي الخروج لاختبار مسحتنا، لاختبار قوتها وقدرتها الفدائية: في “الأطراف” حيث الألم، والدم المسفوك؛ حيث الأعمى الذي يتلهّف لأن يرى؛ هناك حيث الأسرى لكثير من الأسياد الأشرار. إننا لن نتقابل مع الرب بالضرورة في التجارب الذاتية أو في اجترار الخواطر: فالدورات الدراسية والتي تهدف لمساعدة الذات في الحياة قد تكون مفيدة، ولكن إن عشنا حياتنا الكهنوتية من دورة إلى دورة، من نهج إلى نهج أخر، قد نصل إلى البيلاجيانية… ، أيّ إلى تحجيم قدرة النعمة، التي تنشط وتنمو بمقدار نجاحنا في “تقدمة أنفسنا”، بإيمان، وبمقدار “تقديم الإنجيل” للآخرين، وبمقدار “تقديم الدهن” القليل الذي لنا لمَن لا يملك أي شيء.”[1]

المجد للرب يسوع المسيح !

( يتبع )

[1] البابا فرنسيس، قداس الميرون المقدس – خميس العهد، بازيليك القديس بطرس، الخميس المقدس 28 مارس / آذار 2013

http://m.vatican.va/content/francescomobile/ar/homilies/2013/documents/papa-francesco_20130328_messa-crismale.html

Share this Entry

ندى بطرس

مترجمة في القسم العربي في وكالة زينيت، حائزة على شهادة في اللغات، وماجستير في الترجمة من جامعة الروح القدس، الكسليك. مترجمة محلّفة لدى المحاكم

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير