عاش مارون في الجيل الرَّابع بعد المسيح، تاركًا الحياة العامّة، مُعتزلاً على قمّة جبلٍ في المنطقة القورشيّة، شماليّ غربيّ مدينة حلب. انتشر صيت قداسته بين سكّان البلدات والقُرى. فأتوا إليه مُستمعين إلى عظاته وتعاليمه، كما نالوا من عجائبه الَّتي كان يجترحها.
يقول الأُسقف توادريطس القورشيّ عن هذا الكاهن والنَّاسك: “لم يقتصر على الأعمال النُسكيّة المُعتادة، لكنّه اخترع أعمالاً أعظم لكي يجمع غِنَى الحكمة الكاملة […] فهذا العظيمُ القَدرِ، كان يعالج كافّة الأمراض بدواءٍ واحد خاصٍ هو الصَّلاة […] كان يداوي الأَنفُس: يشفي واحدًا من داء البُخل، وآخر يصف له دواء القناعة، ويعلّم آخر قانون العدل، وآخر يحذّره من الشرّ […] حتى أنّه بممارسة مثل هذه الحراثة، قد أنمى كثيرًا من أغراس الحكمة.”
تطبع صفة أو ميزة “الحكمة” الأشخاص العِظام، لتحلّيهم بالمواهب والقدرات الَّتي تكلِّلها صِفة “الحكمة”. يُعتبر القدّيس مارون منذ عصره وحتّى يومنا، القائد الرُّوحيّ، لأنّه رجل صلاة. أعطت الصَّلاة لمارون القدرة والقوّة لاكتساب الحكمة وموهبة الإلهام والرؤية، والإلتزام بالفضائل الإلهيّة والقِيَم الإنسانيّة والمبادئ الأخلاقيّة، والتغلُّب على المِحَن والتَّجارب وقوى الشَّر وحتّى على قساوة الطَّبيعة، “أقول لكم: كلُّ شيءٍ تطلبونه في الصَّلاة، آمنوا بأنّكم قد نلتموه، يكُن لكم” (مر 11: 24). أَلا يستجيب الله للإنسان عندما يصلّي بطريقة إيمانيّة وعميقة؟ “إسألوا تُعطوا، أُطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتَح لكم […] فما أولى أباكم الَّذي في السَّموات بأن يعطي ما هو صالحٌ للَّذين يسألونه” (متى 7: 7-11)، “فكلُّ شيءٍ تطلبونه وأنتم تصلّون بإيمانٍ تنالونه” (متى 21: 22).
أدرك القدّيس مارون فاعليّة الصَّلاة وقوَّتها، ممّا عزّز عنده الشَّجاعة والصَّبر، والبساطة والهدوء، والحكمة والنَّقاوة، وطول الأناة والإيمان. أَليست تلك الصِّفات من سِمات القائد الرُّوحيّ والمدنيّ؟ فالتقوى العميقة والراسخة والصَّلبة، تُسهِم في القيادة الرُّوحيّة. ينظر القائد الحكيم والوَرِع إلى المسيح كلّ حين، وتظهر نعمة يسوع على مُحيَّاه، مُتشبِّهًا بالمعلّم المُخلِّص والقائد الأسمى، أيّ يسوع المسيح، الَّذي خلّص شعبه من الخطيئة.
يمكننا القول بأنّه على القائد الرُّوحيّ أو المدنيّ، التحلّي بالقِيَم والمبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة، كما بكثير من المؤهّلات والصِّفات، الَّتي تخوّله أن يكون قائدًا بكلّ معنى الكلمة .
بالتَّأكيد يتحلّى القائد برؤية واضحة، وبصيرة ثاقبة، وقُدرة على التَّواصل والإتِّصال والإصغاء، وبكفاءة وأمانة، وقُدرة على اتّخاذ القرارات والمُبادرات، ومُمارسة الجدِّية والإلتزام والحَزم، والتمسُّك بالسَّخاء والكَرم، وغيرها من الصِّفات الَّتي تؤدّي إلى نجاح مسيرة القائد، مُحقِّقًا رسالته الرُّوحيّة والإنسانيّة على جميع الأصعدة.
نستنتج من حياة القدّيس مارون وروحانيّته، أنّه القائد الخادم. أين بعض القادة الرُّوحيّين والمدنيّين من مُتطلّبات وصِفات القائد؟ أَلسنا بحاجة إلى قادة يتحلَّون بأدنى مواهب وقدرات وصِفات القائد الخادم؟ نعم القائد يعلِّم ويتعلَّم؛ لا يظنّ أنّه أفضل من الآخرين، بل عليه أن يحاول جاهدًا الإستماع والإصغاء، والمُرافقة والمُتابعة، فلا يقود بالأوامر أو الإملاءات، بل بإعطاء الفرص السانحة للجميع للقيام بمُبادرات ومهمّات. على القائد أن يكون ذاته، أيّ الإبتعاد كليًّا عن الإدانة والتهكّم والتسلّط، والكبرياء وامتلاك الآخر، والتَّمسّك بالسُّلطة “مَن أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليكن للكلّ خادمًا” أَلم يأتي المسيح ليَخدُم لا ليُخدَم؟ (متى 20: 25). أَوليس المَثَل الصَّالح هو المكان والطريقة الأكثر تأثيرًا واقناعًا وتعليمًا في الحياة؟ أَليست “الشَّهادة” الظَّاهرة والفاعلة، أكثر حقيقة من القائد الخادم؟
نعم، نحتاج إلى القيادة الصَّالحة والحكيمة في جميع مجالات الحياة اليوميّة، من زمنيّة وروحيّة. كم يُطلَب اليوم من القائد أو الرَّاعي (“إِرعَوا قطيع الله الَّذي وُكِلَ إليكم واحرسوه طوعًا لا كرهًا، لوجه الله، لا رغبةً في مكسبٍ خسيسٍ، بل بحماسةٍ” (1 بطرس 5: 2)، البقاء مع شعبه و”أبنائه”، باستخدام السُّلطة بنزاهةٍ وشفافيّةٍ وتجرُّدٍ، وشرعيّةٍ لمصلحة الأشخاص، كلّ الأشخاص دون تفرقة. نعم، بالمُطلق عندما يمارس الإنسان الخدمة (“فمَن يكون ضعيفًا ولا أكون ضعيفًا؟ ومَن تزلُّ قدمه ولا أحترق أنا” (2 قور 11: 29)، يصبو نحو القيادة. أين نحن اليوم من القادة المدنيّين والرُّوحيّين، لا سيّما من أبناء مارون؟ هل تكَنَّوا باسم قدّيسهم فقط؟ أَم أنّهم تناسوا أو ابتعدوا عن روحانيّته وصِفات وقداسة مارون البارّ؟ هل هؤلاء القادة أو ما يسمّى “بالزُّعماء” يملكون الآفاق وموهبة الإلهام، والصِّدق والوعيّ، والتَّعاطف والأُخوَّة، كما المحبّة والتَّواضع، والقُدرة على تخطّي العوائق، من خلال المُسامحة والتَّعاون والتَّعاضد والرِّعاية والتَّآخي؟ هل يؤدّون “خدمتهم” بالتَّفاني والإجتهاد، هل هم مُمتلؤون بالإيمان والرَّأفة؟ أَم بالمجد الباطل وحبّ الذَّات والظُّهور، والتسلُّط، ومُمارسة الفساد والغشّ، والضّغينة والكيديّة، وعيش الأحقاد؟ نعم، تتَّسم القيادة بالفقر الرُّوحيّ لا بروح التملّك والسَّعي وراء النَّزوات والتَّأبُط بروح الأنانيّة والكبرياء والهيمنة والعجرفة.
أعطى الله الإنسان المواهب والمقدرات من أجل خدمة البشريّة “وهو الَّذي أعطى بعضهم أن يكونوا رسُلاً وبعضهم أنبياء وبعضهم مُبشرّين وبعضهم رُعاةً ومعلّمين، ليجعل القدّيسين أهلاً للقيام بالخدمة […] ونصير الإنسان الرَّاشد” (أفسس 4: 7-13)، “ومَن له موهبة الخدمة فليخدم […] ومَن يرأس فليرئس بهمّةٍ […] تنافسوا في احترام بعضكم لبعض […] كونوا متّفقين، لا تطمعوا في المعالي، بل ميلوا إلى الوضيع […] فلا خوف من الرؤساء عندما يفعل الخير، بل عندما يفعل الشَّر. أَتريد أَلاّ تخاف السُّلطة؟ إفعل الخير تَنَل رضاها، فإنّها في خدمة الله في سبيل خيرك” (روما 12: 8-17 و13: 3-4).
لنَنهض بمجتمعنا من النَّاحية التَّربويّة والتَّعليميّة والأخلاقيّة، من أجل قيادة المجتمع نحو الأفضل، أيّ الطَّريق الصَّحيح، للحَدّ من الفراغ الرُّوحيّ والضَّياع والتَّشرذم، والفساد والتَّسلّط والإستئثار بالسُّلطة. أَليس عالمنا اليوم، أَحوَج إليه من أيّ وقتٍ مضى، إلى الصَّلاة والزُّهد والانبعاث والإلهام. فالتجرُّد طريقٌ نحو الحريّة الرُّوحيّة، إلى اكتشاف الذَّات الضَّائعة، إلى انقاذ عالم الغد من كلّ أنواع الشُّرور والأخطاء، والابتعاد عن الخوف والضَّجر والكآبة والاكتئاب، والأمراض النَّفسيّة، وتردّي الأوضاع الإقتصاديّة والإجتماعيّة.
يدعو القدّيس مارون جميع أبنائه الموارنة إلى العودة إلى تعاليمه وروحانيّته والإقتداء به، والتَّمسّك بالوديعة والمُحافظة عليها، كما العيش بسلامٍ مع الله والآخر المُختلف. لا خلاص لعالمنا إلاّ بالعودة إل تعاليم الرَّبّ، والإقتداء بالقدّيس مارون القائد.