قال اللاهوتي هانس كينغ “لن يكون هناك سلام بين الأمم بدون سلام بين الأديان ولا سلام بين الأديان دون حوار بين الأديان”. في هذا الوقت الذي يشهد فيه عالمنا تنامياً في حدة النزاعات السياسية والدينية التي ترمي بثقلها على الأفراد كما على المجتمعات والدول. بات من الضروري العمل على تغيير نموذج التفكير المشبع بالتطرف والعنصرية إلى تعزيز الشعور بأننا ننتمي إلى عالم واحد وإلى إله واحد خلقنا جميعاً، وبأن همومنا وقضايانا واحدة، ذلك إذا أُريد للبشرية أن تتعاون في مواجهة التهديد المتزايد للتطرف والتعصب الذي يعتبر أحد أكبر التحديات في عصرنا.
من هنا أرغب في إلقاء الضوء على أهمية “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي وقّعها قداسة البابا فرنسيس والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، في أبو ظبي في 4 شباط 2019، ودورها في الوئام بين الأديان، حيث دعت الوثيقة قادة العالم ومفكريه إلى العمل على نشر ثقافة المحبة والعيش المشترك والسلام، والتدخل فوراً لإيقاف سفك الدماء البريئة، ووقف الحروب والصراعات والانحطاط البيئي والتدهور الأخلاقي والثقافي الذي يشهده العالم حالياً، أعتقد أنه يمكننا القول أن توقيع هذه الوثيقة كان حدثاً استثنائياً يتعدى الجانب الروحاني والجانب الديني، إنها ديناميكية جديدة تنقلنا من مجرد اللقاء إلى العمل معاً جنباً إلى جنب من أجل تعزيز السلام بالطريقة التي نعيش بها معاً، وبالتالي، فإن وثيقة الأخوة الإنسانية ليست خارطة للمستقبل بل هي التزام يومي بالعمل معاً والكفاح ضد كل أفكار الانغلاق والعنصرية والصدام من أجل مصلحة الإنسانية.
لقد أوضح لنا البابا فرنسيس والإمام الأكبر أحمد الطيب من خلال هذه الوثيقة بأن ثقافة اللقاء والمعرفة المتبادلة ليست فكرة طوباوية بل هي شرط أساسي وضروري لحياة أكثر سلماً وبناء عالم أفضل وأكثر أماناً للأجيال القادمة وذلك لا يتم إلا من خلال تعزيز ثقافة التنوع والتعددية الدينية والسياسية والثقافية في العالم.
حيث قال البابا فرنسيس في كلمته أثناء لقاء الحوار بين الأديان في أبو ظبي “ليس هناك من بديل آخر: إمّا نبني المستقبل معاً وإلّا فلن يكون هناك مستقبل. لا يمكن للأديان، بشكل خاص، أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان أن تبذل ذاتها بشكل فعّال، وبشجاعة وإقدام، وبدون تظاهر، كي تساعد الأسرة الإنسانية على إنضاج القدرةِ على المصالحة، ورؤيةٍ ملؤها الرجاء، واتخاذ مسارات سلام ملموسة.”
دعونا نفكر من خلال التركيز على بعض المحاور الأساسية التي جاءت الوثيقة محملةً بها، في كيفية تقوية أواصر الأخوة الإنسانية من أجل بناء عالم يسوده السلام والتعايش المشترك، دعونا نحاول العثور على مسارات جديدة تمكننا من جعل هذه الوثيقة أداة يمكن أن نستخدمها لمصلحة مجتمعاتنا وأجيالنا القادمة:
التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام
أكدت الوثيقة مراراً وتكراراً على أهمية إيقاظ الوعي الديني في قلوب الأجيال الجديدة كما أكدت على أن هدف الأديان الأول والأهم هو الإيمانَ بالله وبأنه الخالق الذي شكلنا بحكمته الإلهية ومنحنا هبة الحياة، وانطلاقاً من الإيمان بالله الذي خلقنا جميعاً وساوى بيننا برحمته فإن المؤمن مدعو إلى تقديم المساعدة لكل إنسان لاسيما من هم أكثر حاجةً وعوزاً بصرف النظر عن عرقه أو دينه.
إن التزام الكنيسة الكاثوليكية بالحوار بين الأديان والذي نشهده في أيامنا هذه سعياً منها لفتح مسارات السلام، هو في الحقيقة جزء من رسالة المسيحية رسالة المحبة والسلام فمنذ المجمع الفاتيكاني الثاني كانت الكنيسة الكاثوليكية مقتنعة بأنه “لا يمكننا أن ندعو الله أباً للجميع إذا رفضنا أن نتصرّف كإخوة مع الناس المخلوقين على صورة الله” كما ورد في بيان Nostra Aetate “حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية”.
الحرية والتعددية حق لكل إنسان اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارسة
تخلق الوثيقة وعياً بأهمية الإنسان فحرية الدين أو المعتقد والفكر والتعبير والعمل حق إنساني مهم ينطبق على جميع الناس مسلمين ومسيحيين فلكل فرد -بغض النظر عن الجنسية أو الجنس أو العرق أو الدين- الحق في الحماية من انتهاك حقوقه وهذا يعني أن كل فرد حر في ممارسة دينه أو معتقده ويقع على عاتق الحكومات واجب حماية حرية الدين أو المعتقد ونشر العدل والمساواة بين أفراد المجتمع كافة بمختلف ثقافاتهم ودياناتهم سواء في التشريعات أو في الممارسة، وتنص الوثيقة التي وقعها البابا والإمام الأكبر، من بين أمور أخرى، على أن الله خلق جميع البشر متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، فدعونا لا ننسى أننا أعضاء في أسرة إنسانية واحدة وأن الإنسانية المشتركة بكل جوانبها تجمعنا.
الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافةِ التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والعيش المشترك بين الناسِ
لكي يكون أي حوار بين الأديان ذا معنى، فإن احترام التنوع الديني وقبول الاختلاف أمر ضروري، وبالرغم من الاختلافات يبقى الحوار أحد أكثر الأسلحة فاعلية في الكفاح ضد الجهل والتعصب ومكافحة التطرف ونبذ العنف فالحوار والتفاهم وقبول الآخر أساس احتواء مشاكل البشر.
الانطباع العام هو أن مرحلة جديدة بدأت في العديد من الجوانب فيما يتعلق بالعلاقات بين الديانتين، فلم يعد ينظر إلى الاختلافات على أنها دعوة للحرب، بل هي فرصة للتعايش والأخوة بين الناس حيث شددت الوثيقة على أهمية بناء هويات منفتحة قادرة على التغلب على تجربة الانغلاق على الذات والتصلب.
إدانة الإرهاب والتطرف بكافة أشكاله
كما تنص الوثيقة أيضاً على أن “الإرهاب ليس نتاجاً للدين بل ينتج عن تراكمات الفهم الخاطئ لنصوص الأديان” وانحرافاً عن التعاليم الدينية نتيجة استغلال الدين من قبل السياسة وتبرير أعمال العنف، لذلك دعا شيخ الأزهر في من خلال هذه الوثيقة إلى وقف استخدام الأديان والمذاهب في تأجيج الصراعات والعنف وإلى أهمية عصرنة الدين كما ندد البابا فرنسيس بكل أعمال العنف مؤكداً أنه لا يمكن لآي شخص أن يبرر العنف باسم الدين.
جميعنا يؤمن بأن الحياة هي هبة من الخالق لا يحق لأحد أن يسلبها أو يهددها، وحمايتها هو واجب تكفله جميع الأديان وبالتالي فإن أي نوع من أنواع العنف الذي يشكل تهديداً للحياة هو خروج عن تعاليم الأديان وانتهاك للقوانين والقيم الإنسانية ويجب إدانته والتصدي له.
إن الانفتاح على الآخرين هو الخطوة الأولى نحو إسقاط الجدران وبناء جسور التلاقي والأخوة لمصلحة البشرية جمعاء، علينا أن نزرع في أسرنا وفي مؤسساتنا السياسية والمدنية والدينية أسلوب حياة جديد يقوم على رفض العنف، وعلى احترام كرامة الإنسان.
ترسيخ مفهوم المواطنة والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح “الأقليات”
تؤكد وثيقة أبو ظبي على ضرورة الانتقال من مجرد التسامح إلى العيش المشترك الأخوي، فبالنسبة للمسيحيين الذين يعيشون في الشرق الأوسط أو في الدول ذات الغالبية المسلمة هذا يعني أنهم لم يعودوا بحاجة إلى الشعور بأنهم أقلية مستبعدة تكافح من أجل البقاء، ولكنهم مواطنين لديهم حقوق وعليهم واجبات في المساهمة في تنمية المجتمع، وبالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في الغرب، فإن هذا يعني السعي لتحقيق تكامل حقيقي مع احترام قوانين البلدان التي تستضيفهم، كمؤمنين لا يمكننا أن نتسامح مع بعضنا البعض فقط بل علينا أن نحب بعضنا بعضاً، لذلك، علينا أن ننتقل من التسامح إلى الحب، لأن الحب سيمكننا من التعايش بسلام، حيث دعا شيخ الأزهر مسلمي الشرق الأوسط إلى احتضان المسيحيين ووجه حديثه للمسيحيين قائلاً “أنتم جزء من هذه الأمة وأنتم مواطنون ولستم أقلية، وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقلية الكريه، فأنتم مواطنون كاملوا الحقوق والمسؤوليات” وبما أن هذه الوثيقة تجسد رسالة عالمية، فهي دعوة لجميع المؤمنين بغض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه للتلاقي بدءاً بما يوحدهم وهو الله الذي نؤمن به جميعاً.
العلاقة بين الشرق والغرب ضرورة قصوى لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها
مع توقيع وثيقة الأخوة تم إنشاء مساحة من الانفتاح والصدق والتعاون وقد تكون هذه الوثيقة شاهداً على التقارب بين الشرق والغرب، وبين جميع الذين يؤمنون أن الله قد خلقنا للتلاقي والتعاون مع بعضنا البعض والعيش كإخوة وأخوات، يجب أن يُنظر إلى الإعلان على أنه رمز للاحتضان ولتعزيز التبادل والتعاون الدوليين بين المسيحيين والمسلمين المبني على ثقافة الحوار وعلى التفاهم المتبادل هذا ما نأمل ونتمنى تحقيقه بهدف إيجاد سلام عالمي.
من بين أمور أخرى دعت الوثيقة إلى المساواة في الحقوق وإتاحة فرص التعليم للنساء، والدفاع عن الحقوق الأساسية للأطفال، كما دعت المؤمنين إلى مد يد العون للفقراء، والضعفاء، والمعوقين، والمضطهدين.
ما نتعامل معه اليوم هو حالة من الصدام بين الأصوات المتسامحة وغير المتسامحة داخل مجتمعاتنا، وبين الثقافات والأديان المختلفة، وهذا هو بالضبط المكان الذي تحتاج فيه الأصوات المعتدلة في هذا العالم إلى توحيد قواها.
أشار البابا إلى أن “السلام كي يحلق يحتاج إلى جناحين يرفعانه. يحتاج إلى جناحي التربية والعدالة” فإذا كنا نرغب في جني حصاد من التسامح والاحترام المتبادل، فعلينا إذن أن نبدأ اليوم، دعونا نتأكد من أننا نزرع بذور التسامح والاحترام المتبادل في مدارسنا ومؤسساتنا الدينية.
ومع نضوج هذه الخطوة الجديدة في الحوار الإسلامي المسيحي دعونا نكرس أنفسنا لمجتمع عالمي من التسامح، قائم على حقوق الإنسان العالمية واحترام التنوع والنقد الذاتي والحوار الدائم الذي يحكمه الاحترام المتبادل، دعونا لا ننظر إلى الاختلافات على أنها فجوات تفصل بيننا وبينهم، بدلاً من ذلك، يجب أن نوحد جهودنا لإنشاء مجتمع عالمي يسير نحو وحدة أكبر جنباً إلى جنب، نحن بحاجة إلى الاستثمار في عالم يمكن أن نصبح فيه “نحن” و”هم” متحدين في احترام التنوع.
آمل أن تتمكن هذه الوثيقة من إيجاد صدى لدى الجميع في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والمدنية، آمل أن يرحب المجتمع الدولي برسالة الأخوة هذه لما فيه خير الأسرة الإنسانية بأسرها والتي يجب أن تنتقل من التسامح إلى التعاون الحقيقي والتعايش السلمي، لذلك علينا أن ندعم الجهود الرامية إلى تعزيز السلام بين شعوب العالم مثلما فعل البابا فرنسيس والإمام الأكبر.
ونحن نتطلع إلى مواصلة العمل معاً آمل ألا تكون هذه الوثيقة حدثاً منعزلاً وأن يكون لها بصمة على طريق الوئام والاحترام المتبادل.