المسيحية والروحانيات الجديدة 3
“وأبْدَلوا مجدَ الله الذي لا يفنى بشبهِ صورة الإنسان الذي يفنى، والطيور، والدّواب، والزحافات”(رو1/ 23)
حركة الفكر الجديدNew Thought Movement
تكلّمنا في المقالة السابقة عن تيوزوفية هيلينا بتروفنا بلافاتسكي مؤسّسة الجمعية التيوزوفية و التي تعتبر أمّ تيّار العصر الجديد، لنبيّن جذور الروحانيات الجديدة وكيف تتناقض تعاليمها وتعاليم الكنيسة المقدّسة. أسّست هذه الروحانيات لتيّار العصر الجديد ولكلّ ممارساتها، بما فيها تقنيات التنمية البشرية واستوحت أغلب تعاليمها من قادة روحيين وفلاسفة ومن معتقدات ديانات الشرق الأقصى. من هذه الروحانيات الجديدة التي تشكَّل منها تيّار العصر الجديد، حركة الفكر الجديد
يتكلّم قدس الأب “بافلي موريس” من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المتخصّص في البدع الجديدة وممارساتها، عن نشأة حركة الفكر الجديد فيقول أنّه أسّست لهذا التيّار عقائدُ وفلسفاتُ وحركات بدأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدّة الأمريكية، بتأثيرٍ من ديانات الشرق الأقصى. ظهر معها عدّة حركات غريبة جديدة، البعض قدّم نفسه على أنّه حركة روحية دينية والبعض الآخر على أنّه حركة علمية أو حركة علاجية الخ. ويؤكّد الأب بافلي أنّ أساس كلّ هذه التعاليم واحد، في كلّ الأشكال التي أخذتها فيما بعد، والتطبيقات التي عرضتها من معالجات بديلة أو تقنيات تحفيزية في إطار التنمية البشرية وغيرها”[1] ويتكلّم عن حركتيْن أسّستا بشكلٍ خاص لتيّار الفكر الجديد، هما حركة التعالي الفلسفية وحركة الشفاء بالعقل.
حركة التعالي الفلسفية أو الفلسفة المتعاليةTranscendentalisme “عُرفت هذه الفلسفة (التجاوزية أو الإستعلائية) في بدايات القرن التاسع عشر، في الولايات المتحدة، مع الفيلسوف الديني “رالف والدو إمرسون” Ralph waldo Emerson(1803-1882) الذي نادى بتقدّم الوعي الفردي على المعتقدات والعقائد الموروثة والنصوص المقدّسة والمؤسّسات الكنسية. واعتبر إمرسون النفس البشرية الديّان الأعلى في المجال الروحي. تتعارض هذه الفلسفة مع الفلسفة التجريبية لأنها تقول بأنّ المعرفة ليست محصورةً بالخبرات والملاحظة. وإنّ حلّ مشاكل الإنسان، في تطوّرٍ حرّ لعواطف الفرد. والحقيقة تكمن في عالم الروح فقط، فما يلاحظه المرء في عالم الطبيعة ما هو إلا ظواهر أو إنعكاسات ثانية لعالم الروح. والناس يتعرّفون على عالم الطبيعة من خلال حواسهم وفهمهم ولكنّهم يتعرّفون على عالم الروح من خلال قوّةٍ أخرى (أوّلية الحدْس عندهم على المنطق والإختبار، من أجل إكتشاف الحقائق المخفية) والعقل هو القدرة المستقلّة المُدركة على معرفة ما هو حقّ بصورة مطلقة. إستوحت من الأفلاطونية المحدثة وفلسفة الألماني إيمانويل كانتEmmanuel Kant (1724-1804) و هي ليست بعيدة عن ديانات الشرق الأقصى التي تعتبر الواقع ضربًا من الوهم وتعتقد بوحدة الوجود.”[2] جاء ذكر إيمرسون في كتاب “السرّ”The secret لروندا بيرن، وهو الكتاب الذي يعلّم “قانون الجذب” وهو الأكثر مبيعاً بين كتب العصر الجديد. إذاً كان هدف إيمرسون خلط ديانات الشرق الأقصى مع المسيحية بما فيها تيوزوفية بلافاتسكي. من معتقداته الرئيسية التي تبنّاها تيّار العصر الجديد فيما بعد: الإنسان هو إله بالطبيعة، كلّ الأديان واحدة، وحدانية الإنسان والله، لا وجود للخطيئة وبالتالي لا حاجة للتوبة ولا للمغفرة.
نشير إلى أن فلسفة “إيمانويل كانت” قد أثّرت أيضًا في فكر المعالج النفسي كارل غوستاف يونغ الذي يستشهد به روّاد العصر الجديد، كما أثّرت في فكر فلاسفة ولاهوتيين عديدين، نتج عن ذلك نظرية التعدّدية الدينية [3](مثل فيلسوف الأديان جون هيك، اللاهوتي بول كنيتر، الأب ريموندو بانيكار وغيرهم) والوعي الجماعي والذاكرة الكونية الخ.
لذلك يتكلّم روّاد العصر الجديد عن أهمية الوعي ومنهم معلّم الإيشا يوغاIsha Yoga سادغوروSadhguru فيقول: “الآن لدينا التكنولوجيا اللازمة والموارد والإمكانيات للتعامل مع كلّ مسألة على هذا الكوكب. الأمر الوحيد المفقود هو الوعي الجماعي”
–حركة الشفاء بالعقلMind Cure Movement بدأتْ في القرن التاسع عشر مع عالم النفس ويليام جيمسWilliam James(1842-1910) وهي أساس العلاجات البديلة المنتشرة اليوم ضمن تيّار العصر الجديد، كالإيحاء الذاتي والتصوّر الذاتي والتفكير الإيجابي الخ
تتكلّم الباحثة مارسيا مونتينيغروMarcia Montenegro من جهتها، عن ثلاث وجوه أساسية لتيّار الفكر الجديد وهي: العالِم إيمانويل سويدنبرغEmmanuel Swedenberg(1688-1772)، الفيزيائي والمنوّم المغناطيسي فرانز أنطون مسمر Franz anton Mesmer(1733-1815) والمعالج فينياس كويمبيPhineas Quimby(1802-1866).
تقول الباحثة “مارسيا مونتينيغرو” أنّه بالرغم من أنّ إيمانويل سويدنبرغ توفيّ في القرن الثامن عشر، إلا أنّ تأثيرَ فكره بقي إلى القرن الواحد والعشرين. لقد تخلّى عن العلم ليُصغيَ إلى كائناتٍ سمّاها ملائكة وقال أنّ العالم الروحي غير المرئي هو أكثر حقيقة من العالم المرئي وأنّ كلّ شيء في العالم المرئي له ما يُطابقه في العالم غير المرئي (هذا ما تقوله الهرمسية أيضًا). هكذا فالعالم المرئي هو برأيه نسخة بدائية بسيطة عن العالم الروحي. كان يرى أنّ الكتاب المقدّس هو كتابٌ إيزوتريكي باطني، ترمز الكلمات فيه إلى حقائق أسمى يفهمها المستنيرون وحدهم.(هذا ما تقوله الكابالا أيضًا أي الباطنية اليهودية التي تحاول فكّ هذه الرموز). الجنّة والجحيم برأيه هي حالاتٌ فكرية. أسّس كنيسة أورشليم الجديدة التي ما تزال موجودة حتّى يومنا هذا.
ادّعى فرانز أنطون مسمر من جهته، أنّ هناك مغناطيسية حيوانية، أيّ سائل مغناطيسي كوني يمكن التلاعب به في البداية بالمغناطيس ومن ثم بواسطة اليدين من أجل شفاء الناس. لقد أدّت ممارساته إلى أنّ بعضهم دخل في حالٍ من الغيبوبة سميّت الغيبوبة المسمرية أو التنويم المسمري. إهتمّ فرويد بها لفترة ظنًا منه أنها قد تساعد في العلاج النفسي ثم أهملها بعد أن وجد أنها لا تجدي نفعاً ولا تعطي النتائج المرجوة وانتقل إلى التحليل النفسي. بالفعل أدانت كلية الطب في فرنسا المسمرية منذ سنة 1784وكذلك رُفضت في الوسط الأكاديمي. يصنّفها البعض كنوعٍ من الدجل والبعض الآخر كعلم ٍكاذبPseudo Science[4]
تأثّر فينياس كويمبي بالمسمرية وأرواحية سويدنبرغ، وهو الأشهر في نشر مايسمّى العلاج بالإيحاء وقوّة العقل. فكلّ الأمراض برأيه سببها خللٌ في التفكير. وهو لا يعترف بفيروس أو ببكتيريا. يكفي أن يفكّر الإنسان إيجابيًا فيشفى. واستنتج أنّ الشفاء ناتج عن إيمان داخلي بما أن الله هو طبيعة الإنسان الحقيقية. وادّعى أنّه منهج علمي اعتمده المسيح نفسه الذي كان بارعًا في اكتشاف هذه القدرة العلاجية. بالتالي فإنّ مصدر الشفاء هو علم اسمه العلم المسيحيChristian Science .(مع العلم أنّه مرض ومات بسبب مرضه وفشل في شفاء نفسه). تأثّرت به بشكلٍ كبير المدعوة “ماري بايكر أيدي”Mary Baker Eddy التي عادت فأسّست بدورها فيما بعد بدعة كنيسة العلم المسيحيChurch of Chistian Science.
ومن ثمّ تلميذتها “إيما هوبكنز”Emma Curtis Hopkins(1849-1925) التي قالت أنّ الحقيقة هي في كلّ الأديان والمقصود بالمجيء الثاني للمسيح هو شفاء روح الإنسان. أسّست كليّة العلوم الميتافيزيقية. لقبّت ب”معلّمة المعلّمين” لأنّ أكثر تلاميذها عادوا وأسّسوا بدعاً أخرى متفرّعة.
نذكر أيضًا من الأسماء البارزة لهذه الحركة:
وارن فلت إيفنز Warren Felt Evans(1817-1889) هو مبشّر من الميتودية تأثّر بسويدنبرغ وتعالج عند فينياس كويمبي واعتقد أنه قد شفاه. أسّس مركزّا للعلاج بالعقل في ساليسبوري. وكتب أن المرض هو نتيجة فكر ملتوٍ في العقل وأنّه بالتفكير الإيجابي يستعيد الشخص الصحّة والعافية. مزج هذه المعتقدات بالمسيحية فعلّم أنّ المسيح هو “مبدأ”، “شرارة إلهية”divine spark موجودة في كلّ شخص.
إرنست هولمزErnest Holmes(1887-1960) هو المؤسّس لتيّار روحي عُرف باسم “العلوم الدينية”Religious Sciences الذي روّج لفلسفة “علم العقل”The Science of Mind وانبثق عنها فيما بعد بدعة أطلقت على نفسها اسم “كنيسة العلوم الدينية” Church of Religious Sciences (تنتمي إليها الكاتبة المعروفة لويز هاي) وهو يعلّم أن الكون خلقه عقل كوني أيّ الله وهو طاقة تتخلّل كلّ الكائنات الحيّة وتتماهى معها (وحدة الوجود) وبالتالي يمكن للإنسان، بحسب ادّعائهم، أن يتواصل مع هذه الطاقة ويروّضها لصالحه بفكره متى فتح أذنه الداخلية فيشفي نفسه بقوّة عقله ويحقّق كل ما يرغب به ويريده.
والقس إسيك و. كانيونEssek W. Kenyon(1867-1948) من كنيسة العهد الجديد المعمدانية ويعتبر جدّ تيّار “كلمة الإيمان” أو ما يُعرف ببدعة “كنيث هاغان” أو إنجيل الرفاهية Prosperity Gospel الذي يبشر بالرخاء والبحبوحة وأن باستطاعة المؤمن المسيحي أن يحقّق كلّ ما يريد.
هؤلاء وغيرهم ، علّموا تعاليم تتناقض تمامًا مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.
(يتبع)
[1] عن محاضرة لقدس الاب بافلي موريس، راعي كنيسة السيدة العذراء مريم للأقباط الارثوذكس في شبرا القاهرة، بعنوان: “تعاليم خاطئة من شرق آسيا”، 1
[2] تيار العصر الجديد من وجهة نظر الايمان المسيحي، جيزل فرح طربيه، دار المشرق، ص 80
[3] لمعرفة المزيد عن هذه النظرية ونظرية النسبية الدينية، مراجعة المرجع السابق، ص 337
[4] نقرأ مثلاً في معجم اللاروس عن المغناطيسية الحيوانية أن لها صفة الخفائية وتقول عنها الفيلسوفة إيزابيل ستينجر في كتابها “التنويم بين السحر والعلم” أنها شكل من أشكال الدجل