” هُوشعنا ! مُباركٌ الآتي باسم الرَّب مَلِكُ إسرائيل” (يو ١٢: ١٣).
هُوشعنا، أيّ يا ربّ تعالَ وخلّصنا. هُوشعنا، صيحاتٌ صادقةٌ من أفواه النَّاس في أورشليم (مدينةُ السَّلام)، تهتف ليسوع ( معناه الله يخلّص).
دخل يسوع المسيح إلى أورشليم كَمَلِكٍ، لأنّ الشَّعب انتظر هذا الدُّخول المَغمور بالرَّجاء والأمل، لتحقيق الخلاص “هوّذا ملِكُكِ يأتيكِ صدِّيقًا مُخلِّصًا وديعًا…” (زك٩:٩). آمنَ النَّاس بقُدرة إبن الانسان وفاعليته. عاش هؤلاء أنقياء القلوب، حالةَ “خلاص” “وخروج” شعب الله من أرض مصر، على يد موسى، الذي قادهم إلى أرض الميعاد، أيّ أرض الحرِّية.
يحتفل أبناء الكنيسة بليتورجيّة الشَّعانين المُتضمِّنة التّطواف (الزيّاح) في السّاحات والشوارع، حاملينَ أغصان الزَّيتون وسُعَف النَّخل، مُعبّرين عن إيمانهم بيسوع المسيح مَلِكًا ورسولاً ومُخلِّصًا.
تمرّ الكُرة الأرضيّة في هذه الأيّام، بمرحلةٍ عصيبةٍ وصعبةٍ وخَطرةٍ، بسبب تفشّي فيروس (وباء) “كورونا”(Covid 19)، الذي وضع أبناء الأرض جميعًا في “سلّةٍ واحدةٍ”، أمام خياراتٍ صعبةٍ وتحدّياتٍ جمّةٍ، وتساؤلاتٍ كثيرةٍ ومتشعّبةٍ، حتّى وصل الشَّك بقُدرة خلاص الرَّب لشعبه من هذه المحنة، أو بتجاهله لآلام وأحزان ومصائب البشريّة، المُتأتّي بسبب تفشّي هذا الفيروس، غير الظَّاهر للعَيان، والذي فاجأ الكُرة الأرضيّة، بشراسته وتداعيّاته المُؤذية على جميع الصُّعُد.
سيكون الاحتفال الليتورجيّ لهذا العام مُختلفًا تمامًا، إنما في الشَّكل وليس في الجَّوهر والمعنى. سيغيب عنه المؤمنون كافةً بمَن فيهم صانعو الاحتفال، أيّ الأطفال الأبرياء والأولاد الأطهار، ستخلو أبهاءُ كلّ الكنائس وساحاتها وشوارعها، من كلّ فرحةٍ وبهجةٍ وصيحةٍ وأصوات المُنشدين، أناشيد المجد والتَّعظيم “ترنمي وافرحي أورشليم وترحّبي بالمَلِك العظيم […] أيقظي الرُضَّع والأطفال، ليستقبلوه بكلّ احتفال”…
يركّز أحيانًا بعض المُعمّدين، فقط على التّطواف (الزيّاح)، لما يحمل من لقاء فرح وإعلان إيمان والتزام بمشروع الله الخلاصيّ، وذلك لرمزيّته وتعبيره عن السَّير وراء المسيح المُخلّص. أَوَليس التّطواف مسيرة دائمة متّجهة نحو الملكوت السَّماويّ؟ أوَليس حركة ً”جماعيّة” تدلّ على تماسك وتضامن “الجماعة” المسيحيّة في ما بينها؟ هل يعي حقًا أولئك المشاركون في التّطواف (الزيّاح)، بأنّهم يُعلنون ملوكيّة المسيح؟ وكمَلِكِ السَّلام والعدل؟
ليتذكّر حاملوا السُّعَف والنَّخل والشُّموع والزِّينة، أنهّم يعترفون ويقبلون أنّ الربّ يسوع يهديهم إلى الطَّريق القويم والصَّحيح، كما يثقون به ويسيرون في أثَره، حافظين كلمته وعاملين بها. بالمُطلق عندما يؤمن الانسان بقُدرة يسوع المسيح، يتحضّر للذهاب معه حيثما يحمله ويتبعه ويخضع له. يتبع المؤمن المسيح، لا لذاته ومجده وضعفه وكبريائه، وأنانيّته وملذّاته، وتعلّقه المُميت بالماديّات، بل لتمجيد الله والاعتراف به. إنّ اتّباع المسيح هو تجدّد وتحوّل داخليّ دائم، يتطلّب توبة وندامة. هل ليتورجيّة عيد الشَّعانين تُحَدَّد فقط بالتّطواف (الزيّاح)؟ وفيما لو لم يحصل التّطواف، هل نكون قد نقضنا إيماننا وتعلّقنا بالمسيح؟!
بسبب انتشار فيروس ” كورونا”، لن يشارك المؤمنون بالذّبيحة الإلهيّة، ولا حتّى بالتّطواف. أَلا يبقى الإيمان العميق والمُعاش مُعَبّرٌ عنه، بالرُّغم من الحروب والكوارث والأوبئة، ونتائجها السَّلبيّة والمُؤذية للنَّاس؟ بالتَّأكيد يتحقّق الإيمان ممارسةً وعيشًا، بالرُّغم من تغييرات التّقاليد والعادات والظروف.
فلنسترجع معًا تلك الصُّورة الرَّائعة والمَهيبة والجليّة والخشوعيّة، عندما أطلّ البابا فرنسيس، وحيدًا، منفردًا، في ساحة القدّيس بطرس، عبر وسائل الإعلام والتّواصل الإجتماعيّة، وإعطائه الغفران الكامل، لمدينة روما والعالم، في ساحةٍ خاليةٍ خاويةٍ، إلاّ من التّماثيل والأعمدة وبعض طيور الحمام، على وقع هطول الأمطار.
نعم، إنّه حدثٌ مميّزٌ خرق قلوب وعقول المؤمنين. أَلَم تحلّ البركة على المؤمنين؟ !
عندما شاهد المؤمنون تلك السَّاحة الفارغة في تلك الليلة، شعروا وكأنّ جموع النَّاس، كانت هناك تصلّي وترتّل وتهتف للآب السَّماويّ. نعم، المؤمن المسيحي مدعو اليوم، أكثر من أي وقت، كي يجدّد إيمانه ونظرته للحياة والتّعامل معها، بطريقةٍ جديدةٍ وصحيحةٍ. إنّها وقفة أمام الذّات، من أجل خلاص الذّات، محاولًا الانتصار على كلّ شيءٍ يُبعده عن الخلاص. نعم، المؤمن المسيحي مدعوّ أن يمشي وراء المسيح ويتبعه، لا أن يتعلّق بالقشور والمظاهر، بل أن يدخل إلى العُمق والجوهر أكثر وأكثر. نعم، بالرُّغم من عدم الاحتفال بتطواف الشَّعانين، وإن لمرّةٍ واحدة، بل المُشاركة الفاعلة، غير المباشرة، من المنازل، حيث تجتمع العائلة معًا للصَّلاة (العائلة كنيسة بيتيّة)، سيكون الرَّب ناظرًا إلى قلوبنا “يا ابني أعطني قلبك” (أم ٢٣: ٢٦)، ونوايانا الصَّادقة “أُريد رحمةً لا ذبيحة […] فإنّ الإنسان هو سيّد السّبت” (متّى ١٢: ٧-٧)… وتبقى الأعيُن موجّهةً نحو مَلِكِ المجد مُعلنةً “افرحي وتهلّلي بكلّ قلبكِ يا بنتَ أورشليم، فقد ألغى الرَّبُ الحُكمَ عليكِ وأبعدَ عدوَّكِ[…] في وسطك مَلِكُ إسرائيل الرَّب، فلا ترينَ شرًّا من بعدُ. لا تخافي يا صِهيون […] في وسطك الرَّب […] الَّذي يخلّص ويُسَرُّ بكِ فرحًا، ويُجدّدُكِ بمحبّته، ويبتهج بكِ بالتّهليل، كما في أيّام العيد” ( نبؤة صنفيا ٣: ١٤-٧٧).
لنُصلِّ معًا، من أجل خلاص البشريّة من تداعيات فيروس ( وباء) “كورونا”، السَّلبيّة والكارثيّة على جميع الصُّعُد، مُتمسّكين بالرَّجاء والأمل والحبّ والعطاء، بالانتصار على هذا الوباء، بأقلِّ ضررٍ…