في نهاية العالم والتاريخ
تتجاذب المؤمن المسيحيّ اليوم، وتُقلقه نظريّات وآراء متعدّدة في مسألة نهاية العالم، والتاريخ، والبشريةّ. فمنها من يعتبر الحقائق النهيويّة أحداثًا مستقبليّة بالكامل، ويرسم هذا السيناريو لليوم الأخير: يأتي المسيح في المجد، ويقوم الموتى ويُدانون، وينتهي العالم الحاليّ، ويُولد عالم آخر جديد. يعكس هذا السيناريو نظرة متشائمة إلى الزمن الحاضر، ممّا يساهم في بثّ الخوف لدى المؤمن على مصيره، ويحضّه على عدم الاكتراث بأشياء هذا العالم، وتركيز اهتماماته على الحياة الأخرى. في المقابل، قدّم آخرون نظرة وجوديّة لا تعتبر النهيويّة كارثة كونيّة في نهاية العالم، بل أمورًا تتمّ هُنا والآن في حياة المؤمن: “في حاضرك يُوجد معنى التاريخ، فلا تنظر إليه كمُشاهد، بل حوّل، بقراراتك المسؤولة، كلّ لحظة إلى لحظة نهيويّة”. بدوره، رأى اللاهوتيّ الألمانيّ كارل راهنر أنّ نهاية العالم لا تعني بالضرورة توقّفًا لتاريخ البشريّة، بل تساميًا نحو مستقبل لا نستطيع أن نتصوّره الآن، مستقبل يكون كليًّا بين يدي الله الآب، الذي يحافظ على خليقته، ويرفعها، ويكمّلها. لذا على الكنيسة أن تذكّر، من جهة، بوجهة المستقبل الذي يبقى مفتوحًا على الله، وتعمل، من جهة أخرى، بمبدأ “جهل المستقبل الحكيم” الذي يعني عدم القدرة على إعطاء تفاصيل دقيقة، وأحكام مُسبقة حول نهاية العالم والجنس البشريّ، وترك هذا الأمر لله وحده. فلا أحد غيره يملك كلمة نهائيّة حول الموت والحياة.
من هذا النقاش نستنتج أنّه لا يمكننا استعمال لغة معلوماتيّة دقيقة وواضحة لوصف النهاية، بل لغة الصور والمماثلة كلغة ملائمة. فالصور والرموز تنقل اختبارات يعيشها المؤمن اليوم، وتنفتح على انتظار الإنسان الجديد، والسماء الجديدة، والأرض الجديدة، وإكتمال ملكوت الله. من هذه الصور: الحديث عن السلام الكبير بين البشر والطبيعة في حضرة الله، وعن وليمة شراكة الحبّ الكبرى، وعن موطن الآب، وعن ملكوت الحرّية والمصالحة والعدالة، وعن الدموع الممسوحة، وعن فرح أبناء الله.
على ضوء هذه التوضيحات، ماذا يمكننا أن نقول عن مستقبل العالم، ومسيرة التاريخ، وإمكانيّات الإنسان وواجباته تجاه هذه المسيرة؟ بالتأكيد لا تعني نهاية العالم دماره، بل اكتماله. هذا ما يفرضه الإيمان بالخلق. فإذا كان العالم من عمل إله يخطّط بحكمة، ويقبل ما يخلق، فلا يمكن أن تقوم نهايته على دماره أو على عدم جدواه. في ما يخصّ مستقبل البشريّة، تعني سيادة الله خلاص البشريّة، والرجاء باكتمال التاريخ، وهو ما سيتمّ مع مجيء المسيح الثاني، ممّا يعني أنّ شكل العالم المستقبليّ تحقّق مسبقًا في حياة يسوع وقيامته. ففيه تتجمّع الآمال بشفاء المرضى، وعزاء المحزونين، وإنصاف المسحوقين، وإزالة الأقنعة المخادعة، وملاشاة الأنانيّة. فحيث تكون الحرّية ممكنة، ويُفسَح مجال للحياة، وتُقام العدالة، وتبحث أمم الأرض عن السلام والمصالحة والمحبّة، ويخفّ الخوف من الموت، هناك تتحقّق خطوات على طريق الاكتمال النهائي. هكذا يضمن الإيمان بالله اكتمال العالم، ويساعدنا على تحمّل اليأس والفشل. فذكرى قيامة المصلوب، تمنحنا القدرة على مواصلة الرجاء، والإلتزام في سبيل عالم أفضل.