كورونا تُربِكُ الإنسانيّة وتزعزعها

وتبقى الحياة أقوى من الموت

Share this Entry

هل عَرَّى فيروس “كورونا” كوفيد 19 الإنسان من إنسانيّته؟ أَلَم يضعه أمام خطرٍ مُحدقٍ لا محال؟  فظهرت “الإنسانيّة” وكأنّها على شفير الاضمحلال. هل تترنّح حالة “الإنسانيّة” في هذه الأيّام السيّئة والخطيرة؟

يحتاج إنسان هذا العصر إلى تذكيره “بإنسانيّته”، الَّتي أعطته الوجود والكيان، وحبّ الحياة واحترامها، والقدرة على الاستمرار في “حياةٍ” هادئةٍ وآمنةٍ نوعًا ما.

تبيَّنَ لأغلب أفراد المجتمعات في العالم، أنّ فيروس “كورونا” تحدّى البشريّة. تحدّاها في مواجهته له، بالتَّضامن والتَّعاون والأُخوّة. هل نجحت الإنسانيّة بالمواجهة، بحفظ حياة الأشخاص الجسديّة والنَّفسيّة والمعنويّة، كما احترام كرامتهم وحقوقهم؟

  • أين أنتَ يا إنسان؟

 بالتَّأكيد، الأسئلة كثيرة، ومنها: لماذا حدَثَ كلّ هذا؟ هل هذا مُفتعل من أجل غاياتٍ وأهدافٍ تطال الحياة؟ وإلى أين نسير؟ وهل سنصلُ فعلاً؟ ماذا قدّمت العَولَمَة؟ (قرية كونيّة، أصبحت قرية كورونيّة) لم تحقّق التَّفاهم والتَّضامن حول المصير المُشترك أَلَم تُقصي البلدان الفقيرة والنَّامية؟ وتلك “الحضارة” المتوحّشة الَّتي تُقيِّم الإنسان على أساس “قُدُراتِه الإقتصاديّة والماديّة، لا على “إنسانيّته”، الَّتي يتساوى فيها مع أخيه الإنسان؟ أمّا الأجوبة فتنتظر تفسيرات وتحليلات ومقاربات من أصحاب المسؤوليّة المُباشرة. لاحظ عددٌ كبيرٌ من سكّان الكرة الأرضيّة، العجز الفاضح في مواجهة الفيروس، ليس لأنّه انقضَّ على البشريّة بأسرها، بسرعةٍ فائقةٍ وغير ظاهرةٍ للعيان، بل لأنّ معه تبدَّدت كلّ الآمال “بعالمٍ” سيطر عليه العَمى، والاعتداد بالنَّفس، وحبّ السَّيطرة، و”العنجهيّة” و”الفوقيّة”، وثبت بأنّه يستطيع السَّيطرة كليًّا، بقدرةٍ ذاتيّة، على كلّ “تحّركٍ” أو ما شابه ذلك، ليس في فلك الكرة الأرضيّة وحسب، بل حتّى في عالم الفضاء الواسع.  يتساءل الكثيرون أين هي تلك الاختراعات والاكتشافات والتِّقنيات الَّتي تحدّثوا عنها كثيرًا، على أنّها قادرة على مواجهة، أيّ أزمةٍ أو مرضٍ مُعدٍ أو كارثةٍ، في عالم باتَ فيه الإنسان يتحكّم بكلّ شيءٍ!  ألَم يُربك فيروس “كورونا”، الَّذي يشابه نَزلَةَ بردٍ قويّةٍ، تستهدف الجِّهاز التَّنفسيّ، البشريّة بأسرها وجعل قواعدها وأساساتها، وقيمتها وقِيَمَها تهتزّ وتتزعزع؟ أَلَم يظهر الإنسان ضعيفًا أمام هذا الوباء مهما تظاهر بأنّه القويّ الجبّار؟ أَلَم يحتاج خلال هذه الكارثة القويّة، إلى الاحتياجات البسيطة، من خلال العَون والتَّعاضد والتَّكاتف؟ رأينا في بداية تفشّي الوباء الاستهتار واللامبالاة والتفرّد، وتُرِكَ كلّ بلدٍ يعالج “مصيبته” بنفسه. لكن عندما انتشر الوباء في العالم أجمع، لمسنا التَّعاضد بين الدول. هل هذا نابع من فضيلة التَّعاضد أم من مصالح سياسيّة واقتصاديّة مُشتركة؟! هل فقد الإنسان إنسانيّته؟ هل أدركَ أنّه نَقَضَ العقد والعهد مع الخالق؟ ومع أخيه الإنسان؟ ومع البيئة؟

  • سيّد الكون

هل أدركَ الإنسان أنّه ليس وحده سيّد الكون وصاحبه وملكه؟ نعم، خلق الخالق الكون للإنسان  بطريقةٍ صحيحةٍ. “أَوَليس السَّلام مع الله الخالق، سلامًا مع مخلوقاته؟ إذا كان الإنسان لا يعيش سلامًا مع الله، فلن تنعم الأرض بالسَّلام”. بالمُطلق، وللأسف يتفاعل الإنسان مع الكون بطريقةٍ عشوائيّةٍ ومؤذيةٍ. أَلا يجب أن يتذّكر أنّه “زائر” على هذا الكوكب، وعليه أن يترك أثرًا جميلًا، و”مخلّفات” صحيحة وصحيّة للأجيال القادمة، وليس أشياء مضرّة وقذرة وملوّثة؟

  • واقع مُستجدّ

يعيش معظم النَّاس تحت “رحمة” وباء “كورونا”. تحاول الأغلبيّة أن تتأقلَم مع “الواقع المُستجدّ”، بالرُّغم من الصُّعوبات المُستجدّة والكثيرة والقاسية، الَّتي طرأت على حياة الإنسان اليوميّة، وعلى جميع الصُّعُد. رافق الإعلام ووسائل التَّواصل الاجتماعيّ جائحة “كورونا كوفيد ١٩”، ممّا سبّب إرباكًا لدى البعض من أفراد المجتمع، فيما بين المعلومة الصَّحيحة والشَّائعة، وعليه أثّرت تلك المعلومات، على الصِّحة النَّفسيّة والعلاقات الاجتماعيّة، والحَدّ من التَّفكير الإيجابيّ. أَخضَعَ وأَجبَرَ هذا الوباء، غالبيّة النَّاس، إلى الانكفاء في منازلهم، وعن الحَدّ من الانتاجيّة لكثير من “الأعمال”، الَّتي يحتاجها المجتمع، من أجل استمراريّة الحياة اليوميّة.

أَلَم يشعر المواطن في أغلب البلدان الَّتي تفشَّى بها الوباء، بعجز المسؤولين عن مواجهة “الوباء”، وشعروا بالتَّقصير الفاضح (حيث أصبح الإنسان “رقمًا” فاقدًا لكرامته) وقلّة التَّدبير الحكيم والمُمَنهَج، والتَّحرّك السَّريع والعمليّ، محاولين التَّصدّي للفيروس، بطلبِ وفرضِ “التَّباعد الجسديّ- الاجتماعيّ، والحجر المنزليّ ومن ثمّ الحجر الصِّحيّ؟ شكّلت ظاهرة هذا الوباء صدمةً كبيرةً للكرة الأرضيًة. حاول بعض النَّاس الاستفادة إيجابيًّا من الحجر المنزليّ، بالرُّغم من  بعض السَّلبيّات. نعم، كَبَّلَ الوباء البشريّة جمعاء، فنشرَ الخوف والذّعر والكآبة والاحباط، وجمّدت العادات والاحتفالات والتَّقاليد، وتعثّرت الأعمال والنَّشاطات، وانخفضت المداخيل بشكلٍ مرعبٍ، وازدادت أسعار أغلب المواد، وبدأ إنفاق المُدخرّات، وازداد الفقر والجوع، ومن ثمّ  قضى على ألوفٍ من البشر. نعم، خائفةٌ هي البشريّة على تغيير مسار مصيرها. إنّها تترقّب بقلقٍ وخوفٍ. هل سيحسّن الإنسان “نمط الحياة”، بإعادة البوصلة إلى اتّجاهها الصَّحيح والقويم؟ أَم سيتابع انقياده نحو “نزواته” الدنيئة على جميع الصُّعُد؟

  • ماذا بعد؟

والسؤال الآن والمهمّ والمُنتظر، ماذا بعد؟ كيف سيخرج الإنسان من هذا الكابوس؟ كيف هي الآليات والطرائق والوسائل الَّتي ستُستعمل؟ هل اتّعظَ من أخطائه؟ وتعلّم من عنجهيّته؟ وأدركَ فظاعةَ الشَّر وتأثيره على الحياة؟ نردِّدُ مع أصحاب الأمل والرَّجاء “كلّ شيءٍ سيكون على ما يرام”، لكن كيف؟ وحتّى متى سيكون كلّ شيءٍ على ما يرام؟

شكّل خطر هذا الوباء الحافز كي يكون الإنسان، أكثر قُربًا وتضامنًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، مع أخيه الإنسان. هل وعى لأهميّة استعادة التَّضامن الإنسانيّ من جديد؟ هل اكتشفَ أنّ التَّعاضد ضرورة لخلاص الذّات والآخر؟ هل شعر بحاجةٍ إلى تفعيل روح الأُخوّة “وأَنسَنَة الإنسان من جديد؟ أَلسنا بحاجةٍ اليوم أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، إلى التَّماسك الاجتماعيّ للحفاظ على السِلم الأهليّ والأمن العالميّ؟ أَلَم يشعر بأنّ مصيرَه مرتبط بمصير كلّ إنسانٍ، أيّ مصير مُشترك؟ أَجبَرَ وأَلزَمَ هذا الوباء التَّرابط والتَّشبيك، بين سائر البلدان، من أجل حماية الإنسان. يعيش “عالمنا” الفاقد لسلامه الحقيقيّ، لحظة فاصلة، حيث الإنسان يدمّر الكوكب بالقضاء على البيئة (الطبيعة)، واستمراره الإدّعاء حول حسنات العَولَمَة، والانتاجيّة الاقتصاديّة، المبنيّة على نظامٍ اقتصاديٍّ متوحِّش. أَلَم ترتاح البيئة في هذه الأيّام من التلوّث القاتل، والاعتداء المُبرَح عليها من كلّ حدٍّ وصوب؟ يتحدّث معظم النَّاس عن أنّ بَعدَ “كورونا” غير ما قبلَ “كورونا”، أيّ عن نظامٍ جديدٍ. هل أهل القرار والسُّلطة بحاجةٍ أكثرَ إلى حروبٍ وأوبئةٍ وكوارثٍ، للصحوّ والنّهوض، من أجل وضع نظامٍ جديدٍ للعالم؟ أَلا تكفي الحروب والمجاعات وإنتشار الأوبئة، والأزَمات العالميّة النَّاتجة معظمها عن سوء استعمال الاقتصاد والمال والسُّلطة، من تغيير المبادئ الخاطئة، والمفاهيم الكاذبة، والانتقال إلى تحقيق احترام  حقوق الإنسان والمُحافظة على كرامته، والعيش ضمن عالمٍ، تسوده المحبّة والعدل والرَّحمة والأُخوّة، والمُسامحة والسَّلام والأمان؟ أين إنسان اليوم من الكرامة الإنسانيّة؟ أين التَّناغم بين الخالق وخليفته؟ أين هي الجسور بين البشر، المبنيّة على أساسِ المساواة والتَّعاضد والأمل والرجاء؟

  • آفاق مستقبليّة

يُطلب منه اليوم، إعادة النَّظر في رؤيته للحياة. كما معرفة الأسباب وتحليلها، ومقاربتها من حيث تفاعله مع كلّ ما يجري من حوله. من هنا، لا بدّ من تقييم وتخمين ما جرى قبل هذا الوباء وبعده. هل سيترك أهل السُّلطة والسياسة، لا سيّما المُتسلِّطين منهم، وأصحاب رؤوس الأموال المُتحكّمين باقتصاد العالم، خنادق الحرب المُشتعلة دومًا وأبدًا، والتخلّي عن الاقتصاد المُتوحِّش، والسِّياسة الفاجرة، والخلافات والانقسامات في ما بينهم، لتَلتَئِم روح الإنسانيّة من جديد، للبحث في إنقاذ الحياة، كما أرادها الله للإنسان؟

ينتظر الكثير من النَّاس، بعد مرور هذه الكارثة العالميّة، أن يتغيّر مَسلَك الإنسان وأدائه، تجاه أخيه الإنسان والطَّبيعة، وحتّى علاقته بالله الخالق. أَلَا يجب عليه المُحافظة على الحياة، باعتبارها “قيمة جديدة”؟ أَلا يُطلب منه المُشاركة في مسؤوليّة الحفاظ على الذّات والآخر والعكس صحيح؟ نعم، عليه أن ينتصر على “أسوأ أزمة” يواجهها، بالاقتراب من أخيه الإنسان. نعم، المواجهة تقوم أيضًا بالعودة إلى القِيَم والإيمان، كي يستعيد الكون السَّلام والأمان، للمُحافظة على “إنسانيّة الإنسان”.

الإنسانيّة مدعوّة إلى القَفز إلى الأمام للحَدّ من جعل مصير البشريّة مجهولًا، بفرض القوانين والتَّشريعات، الَّتي ترفض تدمير الحياة بالتَّلطّي وراء حسنات العَولَمَة المزعومة.

لا للعَولَمَة الَّتي تقضي على المحبّة والرَّحمة والمساواة والتَّعاضد، بل نَعَم للحياة… نَعَم للأمان… وتبقى الحياة أقوى من الموت…

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير