تلقى تقنية تأمّل الوعي الكاملMindfulness-La Méditation de pleine conscience في السنوات الأخيرة، رواجاً كبيراً. نسمع عنها في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي حتى أنّ عدداً كبيراً من المعالجين النفسيين يروّجون لها كتقنية نفسية علمية من أجل الإسترخاء والتخلّص من القلق والكآبة، ويتجرّأ بعضهم ويتكلّمون باندفاعٍ عن ثورة الوعي الكامل Mindful Revolution .
يقول الأب “جوزف ماري فرلند”P. Joseph Marie Verlinde الأخصّائي في تيّار العصر الجديد وتقنياته[1]، أنّ هناك شركات كبيرة مثل أكساAxa ، كازينوCasino، سودكسوSodexo وغيرها، قد أدخلت برنامج “تأمّل الوعي الكامل” في كادراتها. كذلك تروّج له “غوغل” وتعرضه لكلّ القادة والعاملين لديها، ضمن ما يعرف ببرنامج قيادة الوعي الكامل، فتّش في داخلك Mindful Leadership Program,
Search Inside yourself (SIY)وهي تصنّفه ضمن العلوم وتحديدًا ضمن علم الأعصاب Neuroscience. كذلك نجد مئات المؤلّفات والمواقع على الإنترنت تقدّم هذه التقنية على أنّها تقنية بسيطة وفعّالة[2]. وتشير الباحثة مارسيا مونتينيغرو Marcia Montenegro إلى أنّ أكثر من 200 مركز طبي في الولايات المتحدة تستعين بMBSR[3] من ضمن البدائل الطبية المكمّلة.
ما هو تأمّل الوعي الكاملMindfulness ؟
يشرح الأب “فرلند” ماهية هذا التأمّل فيقول إنّه dدعو لعيش اللحظة الحاضرة في ملئها وفي أدقّ تفاصيلها بشكلٍ معيّن. يمكن وصفه كوعيٍ للحاضر لحظة بلحظة بدون إصدار أحكام. ويعطي أمثلةً على ذلك. على المستوى الجسدي، غالباً ما تبدأ بتمارين التنّفس: أنا أتنّفس، أنا أنتبه لتنفّسي، شهيقًا وزفيراً، بشكلٍ أصبح معه متفرّجاً ومراقبًا أي بمعنى أنني أرى نفسي أتنفّس كأنّني من خارج بشكلٍ أنفصل فيه عن ذاتي، أي يحصل عندي نوع من الإنفصال أو الإفراز. كذلك أنتبه كيف أمشي. أسير على مهل كي أشعرَ بكلّ تفاصيل جسمي. كيف أنقل قدميّ وتتشكّل خطواتي. إذًا المطلوب في هذا التأمّل، أن أكون يقظاً ليس لما أفعله، لكن لما يحصل!
يعلّق الأب “فرلند” فيقول أنّه عادةً نحن ننتبه لكلّ عمل نقوم به لنحرص أنْ لا يصيبنا مكروهٌ أو حادث أو كي نتمّمه بدقّة، أو من أجل حفظ الحواس وحراستها كما ينصح الآباء القديسون في الحياة الروحية. عادةً نحن نعيش اللحظة الحاضرة بملئها كأشخاص فاعلين، لنا إرادة ولنا رؤية وأهداف وليس كمتفرّجين لما يحصل !
وفي سياق شرحه لهذه التقنية، يعطي الأب “فرلند” مثالًا آخر على المستوى النفسي: أكون يقظًا للأفكار التي تمرّ في رأسي. هي أفكاري لكنني أنفصل عنها لأشاهدها دون تمييز ودون أن يكون لي أيّ تقييمٍ لها. الأمر نفسه بالنسبة إلى مشاعري. ربّما لديّ مشاعر خوف هلع وحزن الخ، لكنني أبقى على مسافةٍ منها. لماذا هذا الإنفصال؟ بحسب رأيهم أنه متى نجح الشخص في هذا الإفراز، تصبح الأحكام أكثر نسبيةً له ويصبح الشعور أخفّ وقعاً عليه، بما أنّه على مسافة منها. وهكذا كلّ حركة أو عمل أو تفكير يومي، هو موضوع “تأمّل الوعي الكامل”. هي نظرة مغايرة لكلّ ما قد أعيشه وأفعله في الجسد والفكر.
نتذّكر هنا إرشادات الآباء القدّيسين في اليقظة والصلاة والجهاد الروحي وفي حراسة الذهن والقلب معاً. يتكلّم الآباء عن حربٍ روحية وتحديداً عن حرب الأفكار logismos وينصحون باليقظة الروحية وتمييز الأفكار من أجل فرزها. فإذا كانت صالحة قبلها الفكر (بحذر إذ قد تكون بإيحاء من عدوّ الخير لغرض الإيقاع بالمؤمن) وإذا كانت طالحة رفضها (أو تصدّى لها بحسب قامته الروحية) والهدف هو المواظبة على الصلاة عملاً بالوصية الإلهية “صلّوا بدون انقطاع” للوصول إلى نقاوة القلب! “طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله”. ولدى الآباء إرشادات في هذا الخصوص وهم يشدّدون على ضرورة التدرّب كي تكتسب الإرادة خبرةً في الفضائل[4]. إذأً عند الإنسان المؤمن يحصل إفرازٌ وتمييز للأفكار. وهذا ما لا يحصل في “تأمّل الوعي الكامل”. فمشاهدة الأفكار تتمّ عن بُعد من دون تمييز أو تقييم. الصالح والطالح سيّان. كل فكر هو مقبول مهما كان!
ما هي فوائد تأمّل الوعي الكامل بحسب ادّعاءاتهم؟
يقولون إنّها تعلّم إدارةً أفضل للمشاعر الشخصية، وتخفّف من مشكلة الأفكار السلبية مثل الهواجس والمخاوف. تساعد كذلك على تخطّي الظروف الصعبة والأوقات العصيبة، تخفّف النزاعات، تجنّب الإنتكاسات كالكآبة وما شابهها، تنمّي التركيز والإنتباه، توفّر قدراً أكبر من الهدوء والصفاء والسلام … أيّ بتعبيرٍ آخر، أنك متى تموضعتَ على مسافةٍ من ذاتك وأفكارك أنت تكون بمأمنٍ من كلّ سوء. أنت لا تسكن طبيعتك ومشاعرك المضطربة، لأنك “تختزل الواقع” “تحجّمه”، أنت “تستنسب” لأنك صرتَ من خارج ولم تعد معني بواقعك بشكل مباشر وواعٍ. هذه الرؤية للواقع بشكلٍ معدّل، تسمّى حالة من الوعي المعدّل Etat de conscience modifies التي تحصل تحديدأ أثناء ممارسة اليوغا وسائر أنواع التأملات الشرقية الآسيوية[5].
يقولون أيضًا أنّ هذه التقنية تؤثّر بشكل إيجابي على عمل الدماغ بحسب الأخصائيين عندهم وكما يدّعي أتباع التأمّل التجاوزيMeditation Transcendantale أو ما يسمّى بتأمّل “الذكاء الخلاّق” الذي يدّعي أنّ الدماغ لا يعمل بكلّ قدراته بل يستعمل بين 5 الى 10 بالمئة في حدّه الأقصى، وهذه فرضية مغلوطة أصبحت منتشرة، ويا للأسف، بين أغلبية الناس وحتى في الوسط العلمي. ويزعمون أنّه بالتأمّل التجاوزي يمكن أن نطوّر قدرات الدماغ فيعمل بكلّ قدراته. ظهرت تقنية “تأمّل الوعي الكامل” بعد حوالي عشر سنوات من انطلاقة التأمّل التجاوزي لكن بشكل “علماني” أخفوا فيه جذوره الدينية البوذية من ضمن حركة تروّج لتقنيات علمانية مستوحاة من صوفية الشرق الأقصى.
قالبٌ جديد بمحتوى قديم
يقول عالم النفس “ألكسندر بيدار”Alexandre Bédard من كلّية اللاهوت والعلوم الدينية في جامعة لافال كيبيك ،كندا في مقالة بعنوان: “علم النفس الغربي يتلامس مع الهند: تحديات تبنٍّ متسرّع“[6] أنه يلاحظ في الوقت الحالي في الغرب لجوء عددٍ متزايدٍ من أخصّائيي الصحّة النفسية والباحثين، إلى فرضيات و تقنيات من روحانيات الشرق الأقصى مثل اليوغا و”تأمّل الوعي الكامل”. وبالرغم من الترحيب الذي تلقاه هذه الممارسات في الغرب، إلا أنه يتعذّر في الوقت الحاضر تحديد موقفٍ واضح من قِبل علم النفس بخصوص الأسس التي يرتكز عليها. كما يتضّح لنا أنّ علم النفس منذ بداياته قد استعار من اعتقادات وتقنيات الهندوسية والبوذية التي لعبت دوراً في تطوّر علم النفس في الغرب. مثلاً ما له علاقة بالنظريات الأولى للاوعي. كما تقول الباحثة كريستين مايار[7]
لم تعد الموضة لصوفيات الشرق الأقصى كما في الماضي، بل لتقنيات “نفسانية” يروَّج لها على أنها من علم النفس الأكاديمي والممنهج وتخفي جذورها الدينية. بالفعل كان هناك رواج في الغرب للممارسات الهندوسية والبوذية والطاوية لفترةٍ من الزمن ولم يزل لكن بشكلٍ أخف، ثم تمّ قولبتها في ممارسات تبدو علمية وعلمانية في ظاهرها. مثالاً على ذلك تقنية السوفرولوجيSophrologie التي هي مزيج من التأمّل والتنويم الذاتي. إذاً لا شيء جديد تحت الشمس. القالب وحده جديد أمّا المحتوى فقديم.
يؤكّد الأب “جوزف ماري فرلند” ويقول إنّ تأمل الوعي الكاملMindfulness في الحقيقة هو يوغا زن بوذية يهدف إلى تعزيز “الإنفصال” وعدم التعلّقdétachement. والإنفصال أمرٌ ضروري في البوذية، لأنّه يحرّر الفرد فالتعلّق بالعالم وشهواته والهوية الشخصية[8] والتفكير الشخصي والرغبات الخ تُبقي الفرد، بحسب رأيهم، أسيرَ الولادات المتكرّرة أيّ التقمصّات.
لمجد المسيح.
يتبع
[1] للأب جوزف ماري فرلند موقع مهم جدا على الانترنت عن تعاليم العصر الجديدNew Age وتقنياته:www.final.age .net
[2] حتى أن هناك تطبيقات رائجة جداً على الهواتف النقالة من أجل ممارسة هذا النوع من التأمل لقاء بدل مادي.
[3] MBSR, Mindfulness –based stress reduction
[4] لمعرفة المزيد عن الحرب الروحية ننصحكم بقراءة كتب مثل : “بستان الرهبان”، “فيلوكاليا الآباء القديسينن”- “نصائح أوإرشادات روحية في حفظ الحواس الخمس”(نيقوديمس الاثوسي) -” الحرب اللامنظورة”(لورنزو سكوبولي، نيقوديمس الاثوسي، ثيوفان الحبيس)، السلم الى الله(يوحنا السلمي)، الاقتداء بالمسيح ، مؤلفات القديسة تريزا الأفيلية، مؤلفات القديس يوحنا الصليب.
[5] يصف الاب جوزف ماري فرلند بدقة هذه الحالات المعدلة للوعي وأخطارها في كتابه : L’Experience Interdite حيث يخبرنا عن خبرته في التأمل التجاوزي التي مارسها لسنوات بإرشاد من معلمه المهاريشي قبل أن يعود الى الرب يسوع ويصبح كاهناً في الكنيسة الكاثوليكية.
[6]Alexandre Bedard, La psychologie au contact de l’Inde, Les enjeux d’une appropriation precipitee, journal theologique et philosophique, volume 69, Issue2, juin 2013, p.191-217
[7] Christine Maillard, L’Inde vue d’Europe: histoire d’une rencontre, 1750-1950-Albin Michel, 2008, p361,
[8] الذات في الهندوسية غير موجودة والتماهي مع الذات يبقي الفرد سجين التقمصات وإعادة الولادة في دوامة لا تنتهي