” في ناموس الربّ مسرّته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً”(مز1/ 2)
تلقى تقنية تأمّل الوعي الكاملMindfulness-La Méditation de pleine conscience في السنوات الأخيرة، رواجاً كبيراً. نسمع عنها في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي حتى أنّ عدداً كبيراً من المعالجين النفسيين يروّجون لها كتقنية علمية من أجل الإسترخاء والتخلص من القلق والكآبة، ويتجرّأ بعضهم ويتكلّمون باندفاعٍ عن ثورة الوعي الكامل Mindful Revolution .
جذور “تأمّل الوعي الكامل”
كما قلنا إنّ لهذه التقنية جذورًا بوذية وتحديدًا في “الفيباسانا”Vipassanãومن هذا المصطلح نفهم بوضوح أنّ هذه التقنية ليست منتجَ مختبرٍ فرنسي أو نيوريوكي، بل هي تتضمّن تعاليم بوذا من القرن الخامس ق. م.
يشرح الأب “جوزف ماري فرلند“P.Joseph Marie Verlinde ماهية “الفيباسانا” فيقول إنّها المرحلة الخامسة من مسار الخلاص المؤدّي إلى الذوبان والفراغ. أيّ مسار التخلّص من وهم الأنا الشخصية وعندها تكون الإستنارة. في الحقيقة، لقد اقتُطِعت هذه التقنية من جذورها البوذية حتّى لا يقال إنّها أُخذَت من ديانة معيّنة لتصبح بالتالي مقبولةً عند الجميع. لقد تمّ علْمنتها بعكس “التأمّل التجاوزي”MT الذي رُوّج له بشكله الهندوسي مع المهاريشي يوغي. يقول عالم النفس “ألكسندر بيدار“Alexandre Bédard [1] نلحظ حاليًا في الغرب أنّ عدداً كبيرًا من أخصائيّي الصحّة وعلماء النفس، يلجأون لتقنيات من روحانيات الهند مثل اليوغا والزن وتأمّل الوعي الكامل Mindfulness بالرغم من لاعلمية هذه التقنيات. ويشير إلى أنّ البوذية والهندوسية لعبتا دورًا كبيرًا في تطوّر علم النفس في الغرب وفي تشكيل ما يسمّى بعلم النفس عبر الشخصي Psychologie Transpersonnelle وما شابهها من العلوم النفسية البديلة غير الكلاسيكية.
من جهةٍ أخرى، تؤكّد الباحثة في تيّار العصر الجديد “مارسيا مونتينيغرو” Marcia Montenegro
أنّ “تأمّل الوعي الكامل” فكرٌ وممارسة بوذية ، وتحديدًا هو الخطوة السابعة من المسار الثماني البوذي. إذًا هو أكثر من مجرّد ممارسة تأملية، إنه رؤية للحياة والوجود ناتج عن شكلٍ من أشكال التأمّل يهدف إلى تعزيز “الإنفصال”. فالإنفصال في البوذية ضروري ، لأنّ البوذية تعلّم أنّ التعلّق بهذا العالم ، وبالتفكير والهوية الشخصية ، والتعلّقات الأخرى كالرغبات والشهوات، تُبقي الإنسان في دورة إعادة الولادة أو التقمّصReincarnation.
إذًا الإنفصال مع التحرّر التام هو الهدف، و”تأمّل الوعي الكامل” هو الوسيلة. غالبًا ما يتمّ تعريف “تأمّل الوعي الكامل” على أنّه وعي للحاضر لحظة بلحظة من دون إصدار أحكام.
وتصرّح “مونتينيغرو” أنها حاولت لسنواتٍ عديدة، دمج هذه الممارسة في حياتها قبل أن تصبح مسيحية. وتشرح كيف أنه روّج لهذه الممارسة في العالم العلماني على الرغم من كونها بوذيةً تمامًا ، من قبل “جون كابات-زين“Jon Kabat Zin (مواليد 1944) ، البوذي زن ، الذي اشتهر بعد نشر كتابه : “أينما تذهب ، هناك تكون”Where you go, There you are . كذلك روّج له المدعو “تيش نهات هانه“Thich Nhat Hanh (مواليد 1926) ، وهو بوذي زن من فيتنام، لاقت كتبه نجاحًا كبيرًا في الغرب. وكلاهما حاضرَ بشكل واسع في الولايات المتحدة.
وتؤكّد أنّ كابات – زين ليس شخصًا علمانيًا. إذْ كان طالبًا في الزن Zen Seung Sahn وهو عضو مؤسّس في Cambridge Zen Center. وقد بدأ Kabat-Zinn نظامًا يسمّىMBSR )الحدّ من الإجهاد بواسطة تأمّل الوعي الكامل) في مستشفى جامعة ماساتشوستس قبل عدّة عقود.
من الأشكال الغربية المعلمنة
إذًا “جون كبات زن” Jon Kabat Zin هو الذي أطلق Mindfulness عالميًا تحت تسمية MBSR(Mindfull Based Stress Reduction) في سبعينيات القرن الماضي وتحديدًا من مركز إيسالينEsalen التابع لتيّار العصر الجديد.
ثم برز “زيندل سيغال” Zindel Segal(1956-…) الذي روّج لما يسمّى ب MBCT(Mindfulness Based Cognitive Therapy)
ثم “مارشا لينيهان” Marsha Linehan (1943-…) الذي أسّس ما يسمّى ب DBT(Dialectical Behavior Therapy)
هذه التقنيات هي “تأمّل الوعي الكامل” نفسه، لكن في إطار علاجات نفسية متخصّصة وبشكل مُعلْمَن مجتزأ من الأصول البوذية، يعرضها علماء النفس و مدرّبو الحياة Life Coach كتقنية محايدة وعلمية.
يؤكّد الأب “فرلند” أنّ تقنية “تأمّل الوعي الكامل” بشكلها المعلْمَن قد شوّهت التقنية البوذية الأصيلة. إنّ التقنية البوذية ليست محايدة أخلاقيًا. في “تأمّل الوعي الكامل” ليس هناك فرز للأفكار بين ما هو شر وما هو خير، هي مراقبة حيادية للأفكار مهما كانت. بينما في التقنية البوذية جهد لرفض ما هو شرّ وإبقاء على ما هو خير من أجل بلوغ الفرد الإنسجام مع الآخر. بكلام آخر هي محاولة اختزال الأفكار الشريرة وإبقاء الأفكار الحسنة بهدف ضبط الأفكار واليقظة الصحيحة. يسمّونها Sammasathi وهي بعكس اليقظة الخاطئة ويسمّونها Mitchasati . هذا التمييز لا يحصل في “تأمل الوعي الكامل” الذي لا يمّيز بين الأفكار. يترك الشخص كلّ شيء يظهر من دون أن يحسّ أنّه هو نفسه معنيًا بالأمر ولا أن يكون له ردّة فعل على المشاعر والأحاسيس التي يمرّ بها. في الجذور البوذية هناك ردّة فعل تجاه ما هو شرّ ومحاولة لضبط الأحاسيس والمشاعر. ما لا وجود له في الشكل المعلمن. (مع العلم أن الشكل البوذي يبقى لا شخصانيًا ولا غيريًا أي لا حوار فيه مع من هو غير ومحوره الأنا والذوبان في ما يشبه الفراغ والعدمية).هذا الأمر دفع أشخاصًا بوذيين إلى الإحتجاج مثل “بيكو بودي” Bhikkhu Bodhi الذي انتقد “الفيباسانا” العصرية قائلاً إنّها أخلاقيًا حيادية ولا تمييز فيها بين حالات فكرية صحيحة وغير صحيحة وهي لا تتوافق مع الأصول البوذية لهذه الممارسة وتتناقض مع تعليم بوذا. هذا ما يميّز أغلب تقنيات شرق الأقصى المعصرنة والتي تخلّت عن حكمتها وصارت مجرّد تقنيات دون أخلاقيات وضبط للسلوك ما يؤدّي فعليًا إلى استفحال الأهواء. لقد لقيت هذه التقنية رواجًا لأنها أخذت منحى مبسّطًا وبراغماتيًا على الطريقة الأميريكية والذي يوحي بأنّه يعطي حلولًا عملية آنية وسريعة للمشاكل على تنوّع تشعّباتها.
ومن الملاحظات التي يذكرها الأب “فرلند” حول تقنية “تأمّل الوعي الكامل” Mindfulness:
-إنّها استغلال وتسخير كأداة وهي ليست حلاًّ جذريًا ومساعدة حقيقية للشخص. لا تفتّش عن السبب وبدل تغيير المنظومة (العمل مثلاً) تعطي مخدّرًا للتحمّل في نظام ليبرالي لا إنساني لا يرحم.
-إنّها تقنية تجارية مربحة جدًا ورائجة بشكلٍ واسع يروّج لها كحلّ للضغط النفسي stress والقلق والإرهاق وما شابه.
-تُعرض كروحانية علمانيةspiritualité laïque يصفها ألين كوران Alain Courant بأنّها روحانية مبسّطة إختبارية وبمعزل عن أيّ معتقد مفروض ولا علاقة لها بأيّ تنظيم ديني.
صوفية طبيعية في مركز إيسالينEsalen
ويشرح الأب “فرلند” ماهية الروحانية العلمانية، فيقول أنّ لا علاقة لها بأي تنظيمٍ ديني أو عقيدة أو تقليد. وفي الوقت عينه، تسمّي نفسها أنها روحانية. ويؤكّد أنّ Mindfulness تخفي ممارسة دينية بوذية ويتكلّم عن مراحلٍ ثلاث في الروحانية البوذية: الأولى هي التفاني Dévotion وهي تتخطّى الإيمان. الثانية هي المنطق العقلاني La Logique Rationnelleوهي تتخطّى العقل والمنطق. الثالثة هي الفيباسانا وهي الوعي الكامل تهدف إلى تمييز الكائن الأسمى الذي هو في كلّ شيء (بما أنهم يؤمنون بالحلولية فلا تمييز بين طبيعة الخالق وطبيعة المخلوقات). يعلّق فيها كلّ عمل عقلي وفكري من أجل تمييز الكائن الأعلى. هذا مسار لصوفية طبيعية بكلّ بساطةUne Mystique naturelle . هي حالة من الوجود الصافي. يقول الأب “فرلند” إنها انتقاص من وجودنا كشخص. هي نوع من التقهقرregression والإنحدار لوجودنا الإنساني. ويستنتج أنّ هذه التقنية ليست روحانية علمانية بل هي تندرج ضمن ما يسمّى بالصوفية الطبيعية. لا تسامي فيها ولا وجود لعمل النعمة. إنّها تتبنّى نظرة كونية بوذية. كما نعلم أنّ لكلّ ديانة رؤية معيّنة للكون والعالم والانسان.
إذًا إنها كذبة كبيرة عندما يدّعون أنّ هذه التقنية علمانية. ومن المعروف أنّ “جون كبات زن” هو من روّاد مركز “إيسالين”Esalen التابع لتيّار العصر الجديد وقد اهتمّ بتقريب العلوم النفسية من تقنيات الشرق الأقصى وتقديمها كشكلٍ من أشكال علم النفس وغيرها من العلوم، قالبها علماني وجوهرها عقائد الأديان الشرقية. من أشهر المروّجين حاليًا لهذه التقنية “ماتيو ريكار” Mathieu Ricard الذي لا يخفي انتماءه للبوذية ويقدّم نفسه كراهبٍ بالزيّ الرهباني البوذي. ونتساءل كيف يروّج راهب بوذي لتقنية علمانية، مع العلم أنّه اليد اليمنى “للدلاي لاما”Dalai Lama في فرنسا.
يتبع
لمجد المسيح
[1] La psychologie occidentale au contact de l’Inde. www.erudit.org/en/journals/ltp/2013-v69-n2-ltp01157/1022492ar/