“وما التأمّل، في رأيي، إلاّ حديث صداقة نُجريه غالبًا على انفراد مع من نعرف أنّه يحبّنا”- القدّيسة تريزا الأفيلية
يروّج مؤخّرًا في الأوساط المسيحية المكرّسة والعلمانية على السواء، وتحت غطاء علم النفس، ل”تأمّل الوعي الكامل” كتقنيةٍ علمانية مفيدة تحضّر للتأمّل المسيحيOraison Chrétienne وتسهّله ولا ترى هذه الأوساط تناقضًا البتّة بين “تأمّل الوعي الكامل” والتأمّل في التقليد المسيحي. فهل هذا الأمر صحيح خصوصًا بعد أن تأكدّت لنا الجذور البوذية لهذه التقنية وعدم حياديتها؟
صدر للكاتبة “سوزان برينكمان”Suzan Brinkmann(OCDS) وهي من رهبنة الكرمل الثالثة العلمانية، كانت تابعةً سابقة لتيّار العصر الجديد New Age، كتابٌ بعنوان: “مرشدٌ كاثوليكي لتأمّل الوعي الكامل”A Catholic Guide to Mindfulness[1]. جاء في مقدّمة الكتاب ما يلي: “لقد قطع تأمّل الوعي الكاملMindfulness شوطًا طويلاً منذ بداية ظهوره باعتباره تقنية تأمّلٍ بوذية غامضة لا يعرفها إلاّ الرهبان وعددٌ من المتحمّسين لتيّار العصر الجديدNew Age. وهو اليوم من أحد أهمّ الممارسات الروحية الجديدة في عصرنا. يتمّ استخدامه من قبل أشخاصٍ من مختلف الفئات العُمرية ونواحي الحياة، من أجل اكتساب الوعي الذاتي والهدوء الداخلي وصولاً إلى علاج اضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات القلق الأخرى. إنّ مديري الشركات ونجوم هولييود والأطباء والمعلّمين وحتى رجال الدين يتقبّلونه بشغف. لكن ما هي هذه الممارسة بالضبط؟ من أين أتت وكيف أصبحت مشهورة بهذه السرعة؟ وماذا عن الضجيج الإعلامي بخصوص فعاليتها في الحفاظ على الصحّة العقلية والرفاهية؟ والأهم من ذلك، هل تتوافق هذه الممارسة مع الإيمان الكاثوليكي؟ يحاول الدليل الكاثوليكي لتأمّل الوعي الكامل الإجابة عن هذه الأسئلة، من خلال بحثٍ موجز وجدّي لواحدة من أكثر الحركات النفسية الروحية المثيرة للإهتمام في عصرنا”.
نشر الأب “دومينيك أوزينيه” Dominique Auzenet على موقعه حديثًا قام به الصحافي “باتي أرمسترونغ” من جريدة National Catholic Register مع “سوزان برينكمان” بخصوص هذه التقنية. نُشير إلى أنّ موقع الأب “أوزينيه” يهتم بالتوعية حول الروحانيات الجديدة بما فيها تيّار “العصر الجديد” وممارساته والإنتهاكات البدعوية، مع فريق من الإختصاصيين.
تحت عنوان: “يمكن لتأمّل الوعي الكامل أن يؤدّي بالكاثوليك إلى الفوضى الروحية“[2] تحذّر “برينكمان” من تداعيات هذا التأمّل وتُعرب عن قلقها بسبب محاولة كاثوليك عديدين إضافة مبادئ تأمّل الوعي الكامل إلى تأمّلهم المسيحي أو إلى حياتهم الروحية. تعلّق “برينكمان” قائلةً: “إذا كان أحدهم يعيش حاليًا في حضرة الله، فهو ليس بحاجة إلى ممارسات بوذية مثل “تأمّل الوعي الكامل”. وتُضيف أنّ الممارسات المسيحية هي أسمى بكثير من هذه الطرق البشرية وهي تقودنا إلى حضور الله الذي فيه ملء الشفاء والسلام. لقد أدركت برينكمان تمامًا ما معنى البحث عن السعادة في مجالات ملتبسة ولقد كرّست حياتها لتشارك الآخرين بالبشرى السارة لإيمانها الكاثوليكي. في كتابها تحذّر من أخطار هذه التقنية الجديدة في التأمّل الشرقي الآسيوي، وتقدّم للكاثوليك رابطًا مقدّسًا أكثر عمقًا متجذّراً في حكمة القدّيسين وآباء الكنيسة المقدّسة.
تؤكّد “برينكمان” في بداية حديثها على تجذّر “تأمل الوعي الكامل” في التقاليد البوذية وهو يعمل على بلوغ حال من اليقظة و الإنتباه للحظة الحاضرة للأفكار والمشاعر، مع الحفاظ على مسافةٍ وبدون الحكم عليها إذا كانت صالحة أم غير صالحة. لكن برغم أنّ هذه التقنية مقدّمة على أنها غير روحانية وكوسيلة لمحاربة الإجهاد والقلق، فهي تمارس من خلال عدّة أشكالٍ من التأمّل البوذي، مثل “التأمّل المكاني”Méditation spatiale، “المسح الضوئي للجسد”Le Scanner du corps و”التأمّل التوّسعي للوعي”La Méditation expansive de la conscience. إنّ التواصل مع الربّ لا علاقة له بأيٍّ من هذه الأشكال للتأمّل. وتقول برينكمان أنّ المؤمنين يجهلون، ويا للأسف، أنّ هذا التأمّل بوذي ويحاولون مزجه في تأمّلهم وصلاتهم المسيحية لأنهم يتصوّرون أنّه يساعدهم على عدم التشتّت والتركيز على اللحظة الحاضرة. ولكن يبدو أنهم متى مارسوه بأشكاله المتعدّدة التي ذكرناها، فهم يلجون عالم الممارسات البوذية. ربما يبدأ بعضُهم بممارسة تأمّل الوعي الكامل بشكلٍ منفصل عن تأمّلهم المسيحي، إلاّ أنّ لدى الغربيين التباس ٌكبير بخصوص التأمّل الشرقي الآسيوي الذي هو تمرينٌ عقلي بينما التأمّل المسيحي هو حوارٌ مع الله. يمزجون التأمّليْن معاً من دون أن يعوا ذلك. ما يؤدّي عندهم، وقد حصل هذا الأمر مراراً، إلى فوضى روحية حتى أنّ البعض منهم احتاج إلى صلوات تقسيم !
وردًا على سؤال: ما المشكلة إذا تمّ خلط التقنيات معاً؟ أجابت “برينكمان” أنّ لها اختبار شخصي في هذا الموضوع. وتتكلّم عن حالة عُرضت عليها من خلال خدمتها. لقد تلقّت رسالةً إلكترونية من سيدة تخبر أن زوجها تخلّى عن صلاة المسبحة مع العائلة لأنه وجد أنّ تأمّل الوعي الكامل يُريحه أكثر! حتى ولو لم يجدر بنا أن نصلي كي نرتاح، بل أن تنتحاور مع الرب، يبين لنا هذا المثال كيف يسهل على المؤمنين، في مستويات مختلفة من الحياة الروحية، أن يخلطوا كلّ شيء دون أن يُدركوا ذلك وأن يبتعدوا عن الله بدل أن يقتربوا منه!
وعندما سئلت “برينكمان” هل هناك دراسات حول تأثيرات تأمّل الوعي الكامل، أجابت أنّ هناك اهتمام بين العلماء والباحثين لكن أهم وسائل التواصل والإعلام، لا تذكر إلا الدراسات التي تشيد بمنافع هذا التأمّل دون الإبلاغ عن تلك التي تتكلم عن النتائج السلبية لهذه التقنية. بالفعل، لقد بيّنت بعض الدراسات أنّ ممارسة هذا التأمّل قد تظهر أنها غير مثمرة مع أشخاص يركّزون كثيراً على اللحظة الحاضرة. مهملين أفكارهم حتى الإيجابية منها. ويمكن أن تؤدّي إلى أن ينقطع الناس عن محيطهم بدل أن يركّزوا عليه. وتشير “برينكمان” من جهة أخرى، إلى أن دراسة تحليلة ل 18 ألف دراسة حول “تأمل الوعي الكامل”، قام بها باحثون من جامعة جون هوبكنز سنة 2014 بيّنت أنّ 47 دراسة فقط صحيحة بحسب المنهجية العلمية أيّ ما يقارب 0,0026% ! ومن بين 47 دراسة المقبولة منهجياً، أتت البراهين معتدلة بخصوص تدنّي الهلع، الإنهيار العصبي والألم. بالمقابل أتت البراهين قليلة جدًا بخصوص تحسّن وضع الصحّة النفسية ذات صلة بجودة الحياة. كما بيّنت هذه الدراسات اكتشافاتٍ تُنذر بخطر التأثيرات السلبية لهذا التأمّل . وقد حرصت على ذكر هذه المعلومات في كتابها حتى يكون المشهد كاملاً ويعرف الناس أيضًا الجانب المظلم من هذه التقنية.
يتبع
لمجد المسيح
[1] Suzan Brinkmann, A Ctholic Guide to Mindfulness,OCDS,CreateSpace Independent Publishing Platform, Oct10,2017
[2] https://sosdiscernement.org/mindfulness-conduire-catholiques-a-chaos-spirituel/