“إستيقظْ أيّها النائم، وقمْ من الأموات فيُضئْ لك المسيح!”( أف5/ 14)
يطرح الأخ “باتيست للصعود” من كرمل بوردو، في محاضرةٍ له بعنوان: “هل تأمّل الوعي الكامل والتأمّل المسيحي يتوافقان؟“[1]، 10 أسئلة يحاول من خلالها تبيان أوجه التناقض الجوهري بين “تأمّل الوعي الكامل”Mindfulness والتأمّل المسيحي، بالرغم من التشابه الظاهري بينهما.
يطرح الأخ “باتيست” سؤالًا رابعًا: هل تأمّل الوعي الكامل يُشبه “حفظ القلب” لدى آباء الصحراء؟
يعتقد البعض أنّ “تأمّل الوعي الكامل” هو ببساطة إعادة اكتشاف أو امتداد، على المستوى الطبيعي والعلاجي، لممارسةٍ كانت لدى آباء الصحراء والتي تفترض حفظ القلب. وأنّ هذه ممارسة قد ورثوها من الشرق. يؤكّد الأخ “باتيست” أنّ هناك في الحقيقة فارقًا جوهريًا بين “تأمّل الوعي الكامل” ويقظة القلب. فالتأمّل الأوّل يقظٌ بخصوص استقبال الأفكار دون الحكم عليها، والتأمّل الثاني يقظٌ بخصوص فرز وتمييز الأفكار وإبعاد تلك التي هي بإيحاءٍ من الشيطان. إذًا آباء الصحراء يدعوننا إلى اليقظة الروحية وتمييز الأفكار وليس إلى عدم الحكم عليها، بهدف معرفة مشيئة المسيح والسير في المحبة. ويلفتُ إلى أنّ من يمارس “تأمّل الوعي الكامل” من دون تمييز، يعرّض نفسه لتأثيراتٍ روحية لا يعرف مصدرها. ما يشكّل خطرًا كبيرًا على إيمانه وحياته الروحية. لأنه باسم يسوع فقط نحفظ من تأثيرات الشرّير.(فل2/10)
وردّاً على سؤال خامس: هل علينا تعليق أحكامنا؟ يقول أنّ من الأفكار المهيمنة في “تأمّل الوعي الكامل” هو تعليق الأحكام. يعني أن لا نحكم لا على ذواتنا ولا على أفكارنا ومشاعرنا مهما كانت وعلى محيطنا ومن هم حولنا. قد يخيّل لنا أنّ فكرة عدم الحكم هذه، تتوافق مع دعوة المسيح إلى عدم الإدانة.”لا تدينوا لكي لا تدانوا”(مت7/ 1) لكنّه في موضعٍ آخر، في موعظة الجبل، يدعونا كي نحكم على الشجرة من خلال ثمارها. في الحقيقة إنّ المسيح يدعونا أن لا ندين الآخرين، وفي الوقت عينه يدعونا إلى اليقظة الروحية وإلى التمييز الروحي، خصوصًا إلى تمييز من هم من الأنبياء الكذبة. مع العلم أننّا نميّز بين الخاطئ والخطيئة، فنحن ندين الخطيئة وليس الخاطئ. ما يدعونا إليه “تأمّل الوعي الكامل” هو أكثر جذرية بعد: الإمتناع عن الحكم على أفكارنا خلال التمارين وما بعدها وخلال حياتنا اليومية. أيّ أن نتخلّى عن هذه العملية الفكرية التي تجعلنا نميّز ما هو صحيح أو ما هو خطأ. يكمن خطر الإعتياد على عدم إصدار الحكم في الإنجراف إلى –النسبية- والأمر الأشد خطورة بالنسبة للحياة المسيحية هو الإمتناع عن “فعل الإيمان”. إنّ فعل الإيمان في حدّ ذاته هو حكم. عندما أقول أنّ يسوع هو ربّ أنا أعلن حقيقة إنجيلية بوحي الروح القدس. إذا لم يكن لدي فعل إيمان فأنا أقطع صلتي بالمسيح وعطية النعمة. فيى هذا الاطار، تشرح القديسة تريزا كيف تبقى قوى النفس في حالة التأمّل متيّقظة وحاضرة وتتكلّم عن “سُباتٍ للقوى” “فهي لا تتعطّل تمامًا ولا تدري كيف تعمل” ،”إنّ قوى النفس في الحقيقة، تكون متحدّة به كليًا لكنّها ليست مستغرقةً بحيث يتعطّل عملها”،” إنّ قوى النفس تكون مؤهّلة فقط للإنشغال كليًّا بالله” (السيرة، ف16).ولا نلحظ هذه الحالة في تأمّل الوعي الكامل، حيث لا تمييز روحي ولا حضور للربّ بل انهماك بالذات وحركاتها !
يختم الأخ “باتيست” جوابه ويستنتج قائلاً أنّ هناك تناقضًا واضحًا بين “تأمّل الوعي الكامل” والتأمّل المسيحي. ويلفت إلى إنّ من يدّعي أنّه يقوم بتأمّل الوعي الكامل في الصلاة، هو في الحقيقة يقوم إمّا بهذه وإمّا بتلك لأنّه لا يمكنه أن يحكم وأن لا يحكم، أن يكون في حضرة الله وأن لا يكون، في الوقت عينه.
ويطرح الأخ “باتيست” سؤالاً سادسًا: هل علينا الإنفصال عن أفكارنا وتخيّلاتنا خلال التأمّل المسيحي؟ ويجيب قائلاً إنّ التأمّل المسيحي ليس فقط صلاةً صامتة وبدون صورٍ. هو ليس تأمّلاً صامتًا فارغًا، فإذا كان مقتصرًا على ذلك، فهو سيكون مشابهًا بشكلٍ كبير لتأمّل الوعي الكامل الذي يمارَس في صمتٍ داخلي ولا يستعمل لا صورًا ولا كلمات. نحن في الحقيقة فاعلون خلال التأمّل ونفكّر في المسيح من خلال نصٍّ من الإنجيل أو صلاةٍ سهمية من أجل تنمية فضائل الإيمان والرجاء والمحبة.
إنّ التأمّل المسيحي، كما تقول القديسة تريزا، يأخذ بعين الإعتبار الشخص الذي نتوّجه إليه. ونحن لا ننفصل فيه عن الصور والكلمات، بل على العكس نحن نستعين بها كي ندعم فعل إيماننا ونوّجهه صوب المسيح. فإذا كنّا نتحاور مع المسيح فمن البديهي، أن نفكّر فيه وأن ننظر إليه ونكلّمه. ربّما يهبنا الله، بنعمةٍ منه، عطيّة التأمّل الفائق للطبيعة، أيّ المشاهدةContemplation التي تمنعنا من القيام بمشاهدة طبيعية. لكن هذه العطية لا يمكن الحصول عليها بأيّ تقنية ما ولا يحصل عليها إلا باتضاّع القلب. فالتأمّل المسيحي بحسب القديسة تريزا هو تمثّل ذلك الذي نتحاور معه. تقول: “حين كنتُ أتمثّل ذاتي قرب المسيح…كان يعتريني فجأةً شعورٌ بحضور الله”(السيرة، ف10) وتنصح قائلةً: “كلّما رأينا أنفسنا أثرياء بالمواهب، على معرفتنا بفقرنا، إزددنا استفادةً بل وتواضعًا حقيقيًا”(السيرة، ف10)
“إنّ درسًا وجيزًا في التواضع وممارسة فعلٍ فيه، لأسمى من علم العالم كلّه … أن نعرف ببساطة ما نحن عليه ونمثُل ببراءةٍ أمام الله، فالله يريد ان تكون النفس غبيّة كما هي في الواقع في حضرته، لأنّه، جلّ جلالُه، يتواضع بحيث يرتضيها قربه ونحن ما نحن”(السيرة، ف15)
ويتابع الأخ “باتيست” مع سؤالٍ سابع: هل يترافق التأمّل المسيحي مع تحرّرٍ من شرود الذهن؟ فيقول أنّ بعض المسيحيين ينصحون بالبدء بتأمّل الوعي الكامل قبل الصلاة، من أجل تركيزٍ أفضل والتحرّر من شرود الذهن. فيلفت إلى أنّ وضع مشكلة تشتّت الذهن ليس مناسبًا لأنّ نموّ وتطوّر التأمّل المسيحي، لا يزداد مع تدنّي شرود الذهن والإلهاءاتDistractions . ويعطي مثالاً القديسة تريزا الطفل يسوع، التي تعرّضت في نهاية حياتها لتجربة عدم الإيمان وكانت حينها مكبّلة بالمرض وبكمٍ ّكبير من الإلهاءات والتشتتّات وأفكار التشكيك. واستطاعت بنعمة الربّ التخلّص منها والثبات أكثر في الإيمان. ويشير إلى الأب الكرملي “ماري أوجين” P.Marie Eugene الذي ينصح متى تعرّضنا للتشتّت أن نعود للمسيح بواسطة تأمّلاتٍ مكثّفة وصلوات وأعمال فضائل إلهية.
إذًا قد يكون التشتّت في التأمّل بين الحين والآخر، إنعامًا يدفعنا إلى الإصرار والثبات أكثر وإلى تقديم أفعال إيمانٍ متعدّدة خلال وقت التأمّل. قد نفكّر خلال التأمّل بوجبة الطعام التي تنتظرنا أو بموعد هام الخ كلّ هذه الأفكار يمكن أن تحفّزنا كي نتجّه بشكلٍ أكبر صوب المسيح في الثقة والتسليم الكامليْن. هذه الإلهاءات تدفعنا بقوّة أن نتخلّى عنها كي نركّز بالكامل على المسيح. ويخلص الأخ “باتيست” إلى أنّ البدء بتأمّل الوعي الكامل يمنعنا في الحقيقة من القيام بالتأمّل المسيحي.
يتبع
[1] Fr Baptiste de l’Assomption du Carmel Du Broussey a Bordeaux O.C.D. https://www.youtube.com/watch?v=2HVEC1TkYE8&t=9s