Pixabay, CC0, creative commons

الحدث الصوفيّ: حياة الله فينا

رأي كاثوليكي في تأمّل الوعي الكامل

Share this Entry

الحدث الصوفيّ: حياة الله فينا

“لا أريدُ العالمَ ولا شيءَ من العالم، ولا أرى ما يُرضيني خارجًا عنك!” القديسة تريزا الأفيلية

في معرض مقارنته بين “تأمّل الوعي الكامل” والتأمّل المسيحي، خصوصًا التأمّل بحسب القدّيسة تريزا الأفيلية، من أجل تبيان التناقض بينهما بالرغم من تشابههما الظاهري، يطرح الأخ “باتيست للصعود” من كرمل بوردو، 10 أسئلة.

السؤال الثامن: هل يقظة “تأمّل الوعي الكامل” هي “يقظة الحبّ” كما يراها القديس يوحنا الصليب في المشاهدة الفائقة للطبيعة؟

لا شك أنّ هناك تشابهٌ ظاهري بين التأمّل المسيحي و”تأمّل الوعي الكامل”، لأنّ هذا الأخير يأخذنا أيضًا إلى نوعٍ من الكسل وعدم التفاعل passivité. لكن هذا حال من عدم التفاعل الإنساني، يصل إليه المتأمّل بجهده الخاص.  وهو يختلف عن حال عدم التفاعل في “المشاهدة” Contemplation المسيحية لأنّها ليست منّا بل من الله الذي يُفيضها في قلبنا ونحن نتقبّلها بملء إرادتنا. هي من عمل النعمة. يسمّيها الفيلسوف المسيحي “جاك ماريتانJacques “Maritain بحالة من “الوعي الأعلى” Supra conscience  وهي أسمى من حال التأمّل البشري. ويميّز “ماريتان” بين الوعي الأعلى واللاوعي الفرويدي أي بحسب عالم النفس سيغموند فرويد. الأول فائق للطبيعة والثاني أوتوماتيكي يأتي من الغريزة وهو أصمّ ومن الطبيعة البشرية. يقول إن حالة الوعي الأعلى تتفوّق على الحواس البشرية وعلى ذكائنا النظريّ وهي تنسكب في المحور الأكثر حميمية من كياننا.

هذه الحالة من الوعي الأعلى تصفها القديسة تريزا في معرض حديثها عن خبرتها في التأمّل بأنها “حياةً أخرى جديدة”، تقول في كتاب السيرة : “إنّ ما سيأتي كتابٌ جديد، أعني حياةً أخرى جديدة. ما رويته حتّى الآن كان حياتي، أمّ التي عشتها منذ أن بدأتُ الحديث عن أمور التأمّل فكانت، في اعتقادي، حياةَ الله فيّ !”.

إنّه الحدث الصوفي“، كما يسمّيه الأب “توماس ألفاريث” الكرملي، الحدث الفائق الوصف الذي يُشرك المتأمّل في حياة الله ليكون المؤمن خليقةً جديدة بنعمة المسيح. وهو حدث مختلف عن أيّة ظاهرة صوفية لنساء مدّعيات الرؤى أو لمنوّرين، كما شرحته القديسة نفسها (السيرة، 23). إنّه اختبار لا يشبه اختبار الصوفيين من الشرق الأقصى ولا غيرهم،كما يوّضح الأب “ألفاريث” : “قبل كلّ شيء، ليس الفعل الصوفي لدى تريزا نتيجة عمليّة تحضيرية، ولا بزهدٍ شخصيّ، أو بتقنية أو تدريب نتجا من حثٍّ خارجي. ولا هو تدويرٌ للعقل ولا يوغا. بل إنّ الإختبار  الصوفيّ فاجأ تريزا في المساحة النفسية كحدثٍ لم تكن تنتظره، أو تتوّقعه، أو ترغب فيه، أو تسعى له، أو تعرفه”[1]

إندفاعات الحبّ !

لذلك لا يمكننا الخلط بين “تأمّل الوعي الكامل” أو ماشابهه والتأمّل المسيحي. كذلك لا يمكننا التكلّم عن صوفيةٍ مشتركة واحدة لكلّ متصوّفي الأديان كما يحلو لأتباع العصر الجديدNew Age  أن يروّجوا له. فما هو من عمل النعمة لا يُقارَن، بأيّ شكلٍ من الأشكال، بما هو من عمل الطبيعة البشرية. كما لا يمكن التحكّم فيه وتحقيقه بأي تقنية تأمّلية مهما كانت سامية، لأنه عطيّة مجانية من لدنه تعالى، يهبُها لمن يشاء من أتقيائه.

 إنّ التأمّل المسيحي كما تعرّف عنه تريزا، اختبارٌ متصاعد، نشهدُ فيه ارتقاءً للإختبارات الصوفية، ليبلغ إلى اندفاعاتٍ عنيفة نحو الحبّ:

 “إنّ مَن لم يُعانِ من هذه الإندفاعات العنيفة يستحيل عليه أن يفهمها … ويأخذ بالنموّ في حبٍّ عظيم لله من دون أن أدريَ من يبثّه في نفسي، فقد كان يفوق ما في الطبيعة كثيرًا… كنتُ أراني أموتُ شوقًا لرؤية الله”(السيرة29، 8-9).

والأهمّ من ذلك أنّ هذا العمل الصوفي، الذي هدفه الاتّحاد بالله، ليس إنغلاقًا على الذات أو نشوةً ذاتية و لا ينتهِ ب”التطلّع” فقط، بل في “العمل” أيضًا، ليجمع مريم ومرثا معاً. يقول الأب “ألفاريث” في حديثه عن السهم الذي اخترق قلب تريزا: “باتت رؤية الله الآن السبب النهائي لكلّ الحدث الصوفي. ومن بين هذه الإندفاعات المُحبّة، احتلّت”منّة السهم” مكانًا خاصًا، مع النفاذ في القلب … وفي النهاية، تأتي الناحية الأكثر تميّزًا على الأرجح: التوّتر العمَلاني. فلم ينتهِ الفعل الصوفي لدى تريزا في التطلّع بل في العمل: في نشاطيْن أساسيْن هما الكتابة والتأسيس.”[2]

إذًا في التأمّل المسيحي نكون يقظين وحاضرين لمن نحبّ، لنبلغ بنعمة المسيح إلى الإتحاد به في كمال المحبّة، بينما يهدف “تأمّل الوعي الكامل” إلى نوع من الرفاه الشخصي والنشوة الذاتية في محورية الأنا ورغبات الجسد، وهو فارغٌ من أيّ حضور إلهي ومن أيّ عمل محبة .

السؤال التاسع: ما هو نوع الوعي الذي ينمو في التأمّل المسيحي؟ إنّ “تأمّل الوعي الكامل” يجعلنا يقظين للحظة الحاضرة، بينما التأمّل المسيحي ينمّي فينا الوعي لحضور الله الثالوث، لملائكته وقدّيسيه وللقديسة مريم العذراء. كما ينمّي فينا وعينا لخطيئتنا. إذًا هو نموّ لوعيٍ من نوع أخلاقيMoral، يؤدّي إلى إصلاح حياتنا.

بالمقابل يعمل “تأمّل الوعي الكامل” على تخفيض إحساسنا بالذنب، وهذا أمرٌ مفيد عندما يكون الشعور بالذنب شعورًا مرَضيًا، فتقفل في وجهنا أبواب التوبة القلبية. إذا لم نعِ خطيئتنا، كيف نحسّ بالندامة ونبكّت أنفسنا ونرجع إلى الرب؟

في الصلاة والتأمّل المسيحي، نعي خطيئتنا بما أنّنا في حضرة النور الإلهي الفائق الوصف، فتتنقّى وتتطهّر نفوسُنا. ونحصل برحمة الله على الشفاء الداخلي الحقيقي. في “تأمّل الوعي الكامل” وما شابهه من تقنيات التامل الشرقي الآسيوي، يتمّ طمس جذر المشكلة ألا وهي الخطيئة المتجذّرة فينا، وتخدير جروحاتنا بتغافلنا عنها، فتبقى العلّة ويبقى الألم الناتج عنها. لذلك يلحظ من يمارس “تأمّل الوعي الكامل” بشعور من الراحة والسلام إلا أنه شعور زائف مصطنعٌ و وقتي.

يتبع

[1] توماس ألفاريث، تريزا الافيلية،مجموعة تعليمية في تراث الكرمل-1، بيروت 2015، ص 281

[2] المرجع السابق، ص 283

Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير