المقدمة
في هذا الأحد الخامس من السنة الليتورجية (ب) للطقس اللاتيني الذي نُتابع فيه نوع من القراءة المُتسلسلة للإنجيل المرقسي الذي يعرض لنا أول يوم في حياة يسوع العلنية في تواصل مباشر بالناس كالتلاميذ الأوائل، وأسرة بطرس، والمرضى، … .
- من المجمع إلى البيت الأُسري
كشف مرقس الإنجيلي عن بداية حياة يسوع الــمُتجول بين الناس وبداية تبشيره بكلماته المباشرة والتي تتلخص في “التوبة” و “الإيمان بالإنجيل”. لكن بعد خروج يسوع من [المجمع] مكان الصلاة والعبادات الدينية اليهودية، وفي يوم [السبت] أي يوم الراحة والتعبد للرب. نلاحظه اليوم يدخل في بيت سمعان [مكان العلاقات الأسرية] وهي أوّل كنيسة بيتية بكفرناحوم، بعد منزله بالناصرة مع مريم ويوسف. إلا إنه بسبب رفض أهل الناصرة له يقر الرحيل. وهذا ما سيُعلمنا إياه مؤخراً الإنجيلي إذ يقول يسوع لاحقًا: «لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِهِ وأَقارِبِهِ وبَيتِه… ثُمَّ سارَ في القُرى المُجاوِرَةِ يُعَلِّم» (مر 6: 4- 6).
بسبب عدم إيمان أهل الناصرة بيسوع وتهكمهم عليه قَرَّر الإرتحال منها، ليستقر كــ “نزيل” في سنواته الثلاث الأخيرة بكفرناحوم. اليوم يروي مرقس أقصر معجزة لديه وهي شفاء حماة بطرس. ولكن هناك يُدهشنا مرقس بإستخدام لفظ رقيق إذ يقول في الآية 30: «كانَت حَماةُ سِمعانَ في الفِراشِ مَحمومة، فأَخَبَروه بأمرِها». يدعونا مرقس لخلق حوار مع يسوع. أهل منزل بطرس سريعًا ما إكتشفوا هوية مُعلمه الناصري، فبادروا بإخباره عن الأم المريضة. يفتح الإنجيلي المجال أمامنا لنُبادر بالحوار مع يسوع عن المُحتاج في أسرتنا (مريض، عاطل، مُدمن، … إلخ). الطريقة الوحيدة التي يرشدنا لها مرقس هي أن نتعلم كيف نقدم الآخر بالآمه وباحتياجه للرب. ورسالة مرقس واضحة وهي إن في وقت الألم لا أمل لنا نحن البشر خارج يسوع، لا داعي من القلق الذي يسرق سلامنا، يسوع هو الوحيد الذي يمكن أن نروي له ما يؤلمنا إذ يفعل معنا كما فعل مع هذه المرأة التي تعاني من إرتفاع في حرارتها.
- حضور يسوع الصامت
مبادرة يسوع تجاه حماة بطرس بأفعال صامتة بدون أي كلمة إذ “يدنُو” يسوع منها مما يشير مرقس إلى قُرب إلهنا، فهو يختار اللإبتعاد وقت إحتياجنا البشري. يتعمد مرقس أن يركز على يسوع الصامت فلم ينطق ببنت شفة بينما هو الأقرب اليها. يستمر الإنجيلي بمُفاجئتنا بأفعال يسوع الصامت إذ “يأَخَذَ بِيَدِها” و “يُنَهَضَها” وهي أفعال إحتفالية بها مَهابة ونبرة قيامية. وهنا بالفعل يبدأ بإعلان الُبشرى السارة إذ سريعًا ما نجد رد فعل هذه المرأة التي كانت مَحموّمّة بالفراش، قبل لقائها بيسوع وإذ «فارَقَتْها الحُمَّى وأَخَذَت تَخدمُهُم». مدعوين نحن أيضًا مثل هذه المرأة أن نقبل هذا الحضور الصامت ليتكلم في حياتنا بل ليلمسنا بشفائه. اليوم يسوع لا نراه بعيوننا المُجردة ولكن مرقس يؤكد لنا إنه حاضر وسطنا بصمته ومرافق لنا. ومتى قبلنا هذا الحضور الإلهي، سنتشكل نحن باقترابنا منه ويتم شفائنا ويصير الشفاء هو الدافع لنخدمه من خلال في الآخرين. ويبدو أن هذا تم خلال صباح يومه الأوّل.
ثم في مساء ذات اليوم، نرى الجمع الذي سمع بحدث شفاء حماة بطرس، بدأ يقرع على باب بيت سمعان بطرس طالبين من يسوع الشفاء لأمراضهم بل حملوا مرضاهم الجسديين والنفسيين. بالرغم من أول يوم ليسوع إلا إنه لم يتوان أمام طلباتهم المادية ولم يتخلى عن مرضاهم بل إستجاب لهم وشفاهم. لم يطلب هذا الجمع نعمة إلهية أو روحية أو … بل ما هو مادي، يسوع حاضر أمام طلباتنا البشرية المحدودة وهدفه سعادة الإنسان.
- سر يسوع الخفي
ثم أشار مرقس إلى سر خاص بيسوع، إكتشف الإنجيلي إنه مكان نمو يسوع فيسرد في الآية 35: «قامَ [يسوع] قَبلَ الفَجْرِ مُبَكِّراً […]، وأَخذَ يُصَلِّي». السر الذي يَهمس به مرقس في أُذاننا اليوم هو التواصل مع الآب بالصلاة. أي أن نمونا الحقيقي، لا تتم إلا بالعلاقة الحميمة مع الآب. يسوع الذي خرج من حضن الآب وهو إله بل هو الأقنوم الثاني في الثالوث المقدس، يتقوى بشريًا بهذه العلاقة. فكم بالأحرى نحن أكثر إحتياج لهذه العلاقة! ولكن سمعان يُخبره بأن التلاميذ والجمع يبحثون عنه بسبب شفائاته التي أتمها قبلاً (علاقة مصلحة) وهذا مؤلم إذ ليس بسبب إقامة علاقة معه أو حتى البقاء معه قليلاً.
نحن اليوم، هل نبحث عن يسوع؟ ما هو سبب بحثنا عنه؟ ليحقق طلباتنا كالشفاء، أن نجد عمل، أن نعيش بمستوى أفضل، نجاح أبنائنا … نحن البشر نخطأ حينما نعتقد إننا قد نُقيد الله الآب في مطالبنا منه ولم نعد نبحث عنه للتمتع بعلاقة معه ومع الآب والروح القدس. وبهذا نخسر حياتنا في بحث لا ينتهي لأن بحثنا يتوقف على الماديات وهو يرغب أن يمنحنا الأبديات. كم نحن فقراء، لأننا نخسر الفرص الذهبية ونقلق لما لا قيمة له. يدعونا مرقس هذا الأسبوع لنُعيد قراءة سبب بحثنا عن الرب ونجدد علاقتنا به لذاته وليس للعطايا أو النعم المادية ولنتذكر قوله: «تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة» (مر 1: 14).
أخيراً، يروي مرقس رغبة يسوع في الذهاب إلى المدن المجاورة حتى تصل البُشرى المُفرحة لآناس آخرين: «لِنَذهَبْ إِلى مَكانٍ آخَر، إِلى القُرى المُجاوِرَة، لِأُبشِّرَ فيها أَيضاً، فَإِنِّي لِهذا خَرَجْت» وهذا هو اليوم فهو أفضل شفاء نحتاج له وهو أن يسوع يأتي إلينا ليبشرنا بملكوت الآب، فهل نصير أنا وأنت المكان الذي يرغب أن يلجأ إليه هو حياتنا؟
الخاتمة
اليوم يمكننا أن نتوقف لنلتقي بيسوع الحاضر في أماكن صلاتنا بكنائسنا، وفي أماكن علاقاتنا ببيوتنا. لأنه في هذه الأماكن تحديداً يريد يسوع أن يلتقي بنا ويدخل في علاقة حميمية مع كلاً منا. دعونا نتوقف بضع دقائق ونتحدث معه ونخبره عن أمراضنا. إنجيل اليوم يدعونا لإعادة تفكيرنا لأهداف بحثنا عن يسوع، ولطرح تساؤلاتنا على نوعية طِلباتنا وهل علينا تعديلها أم تغييرها بالكامل، أنطلب الملكوت في زمن البطالة والمرض … ؟ يسوع بالقرب منا يرغب في منحنا كل طلباتنا ولكن الأهم العلاقة معه التي هي عهد حبه لنا فلنتوقف قليلاً ونَدعوّه ليدخل بيوتنا ويلمسنا لمسة شفاء وغفران متبادليت معه الحوار، واثقين بقربه منا. دُمتم أماكن يرتاح فيها الرب ويمكث. أحد مبارك.
د. سميرة يوسف
أستاذ لاهوت الكتاب المقدس – روما