Saint-Joseph-endormi-©-associazionegiovannipaolo2bisceglie.it

حلم يوسف الثاني وحلم الله الثابت

سلسلة مقالات حول القديس يوسف

Share this Entry

«تَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِيوسُفَ في الحُلمِ وقالَ له: «قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك» (مت 2: 13)

مقدمة

    تابعنا بالمقال الأخير أهمية الحلم بشريًا من جانب يوسف البار، وأهمية الحلم الإلهي لعالمنا من الجانب الآخر من خلال حلم يوسف البتول الأول. ورأينا قيمة تشابكهما وضرورة كلاً منهما حينما ينسجما ويتجسدا معًا في الحياة البشرية، فينتج الحلم الإلهي الـمُتحقق في الحياة الإنسانية بشكل يفوق الطبيعة البشرية. حلم يوسف الأوّل هو نقطة إنطلاق لعلاقته الخفية والصامتة بالرب. في الحلم الأوّل، فَهِمَّ يوسف إرادة الله وبدأ في تنفيذ ما يأمره به بشكل مُتدرج. أما في مقالنا التالي سنتوقف عند حلم يوسف، خطيب مريم، الثاني. وسنُحلل أربعة أفعال بصيغة الأمر التي تم توجهها لهذا الرجل الشرقي الأصل والعبري الديانة. يوسف لا يزال مُستمراً بصمود في تحملّ مسؤولية قراره الذي إتخذه نتيجة تفاعله مع الرب في الحلم الأول. يوسف للمرة الثانية على التوالي يفاجئنا بحضوره الفريد ويساعدنا على الدخول في الإرادة الإلهية ورؤية الغير مرئي من خلال الحلم الثاني. هذا الحلم الذي فيه يستمر الرب بالكشف عن ذاته وعن مخططه الإلهي ومن جديد يُطالب يوسف بالتعاون ليُتمم حلمه العظيم لصالح بشريتنا ولخيرها.

  1. يوسف الحالم

من جديد، نستكمل سلسلة مقالاتنا عن القديس يوسف خطيب مريم البتول. متتبعين خطوات يوسف الإنسان وهو يحمل بين يديه إبن الله، مُتحققًا ولامسًا  كشف الرب له. ففي صمت قلب يوسف البار، يتحقق التجسد السري لإبن الله في أسرته البشرية. وبحسب الرواية المتاوية في 2: 1-15 ينمّ حضور يوسف كشاهد عيان عن إتمام أعمال الله. شخصية يوسف كتابيًا/ هي بمثابة المثل والنموذجية البشرية في إقتناعه بالقرار الـُمتخذ قبلاً وهو الطاعة للصوت الإلهي القائل: « يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس» (مت 1: 20). الإستمرار، من جانب يوسف، في مخطط الرب ومخططه الأسري بالرغم من التحديات التي ستبدأ بشكل جديّ من خلال مسيرة الإضطهاد التي سيتعرض لها الطفل الإلهي. يقوم الله الآب، بمعاونة يوسف أب يسوع بشريًا، باتمام مخطط لينقذ إبنه-الله في الجسد.

يروي متى الإنجيلي بدقة مسيرة بحث المجوس ليسجدوا للطفل ويعلن بالإسم أول أعداء هذا الطفل الإلهي وهي السلطات الحاكمة في زمن ولادة يسوع وهو هيرودس، الذي بسرية يرغب مُحاولاً التعرف على مكان الملك الذي وُلِدَّ باليهودية (2: 7-8). صورة تواصل الرب مع المجوس من خلال ملاكه هي ذات الوسيلة التي تواصل الرب بها مع يوسف. نتلمّس هذا النوع من التواصل، مقراء مؤمنين، مع مُلوك الشرق من خلال سرد متى القائل: «ثُمَّ أُوحِيَ إِليهِم [المجوس] في الحُلمِ أَلاَّ يَرجِعوا إِلى هيرودُس، فانصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم» ( مت 2: 12).

  1. يوسف البار والأمر الإلهي بالترحال؟

     تعرض لنا رواية متى الإنجيلي، الجديد عن يوسف. ففي الإصحاح الثاني بعد إنتهاء المجوس من مُهمتهم بالسجود وتقديم الهدايا للمولود الإلهي-إبن الله. نتتبع كقراء مؤمنين نوع دقيق من النمو في العلاقة بين الله الآب بيوسف البار “أب إبنه البشري” ليستكملا معا تحقيق الحلم الإلهي- البشري، من خلال حلم يوسف الثاني. إذ عند إختتام ملاك الرب ترائيه للمجوس بإرشادهم لإتخاذ طريق آخر لعودتهم، يعود ملاك الرب ليتواصل برسالة إلهية جديدة ليوسف. ومن هنا تبدأ مسيرة متتالية من التحديات والأزمات لأب يسوع البشري، يوسف، إذ يروي متى تفصيليًا إنه: «وكان بَعدَ انصِرافِهِم [المجوس] أَنْ تَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِيوسُفَ في الحُلمِ وقالَ له: «قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك، لأَنَّ هيرودُسَ سَيَبْحَثُ عنِ الطِّفلِ لِيُهلِكَه» (2: 13). ليس فقط مسيرة من التحديات التي تواجه يوسف ولكنها تنم عن بدء مسيرة من الرفض لهذا المولود الإلهي الذي آتى حاملاً الخلاص للجميع ولكن هناك من لا يقبله لأنه يجهله أو لأنه يخشى مُلكه أو سيادته.

  1. أفعال الأمر الإلهية الأربع

     لدينا في هذه الآية أربعة الأفعال، واضحين، بصيغة الأمر موجهة من ملاك الرب ليوسف. لكننا ندرك من قراءة هذه الآية، أنّ نبرة ملاك الرب، في رسالته، مُثيرة للذعر والخوف، إذ عليه ببدء مسيرة من الترحال والسفر، ولكن ليس بمفرده فهو رب الأسرة الإلهية وعليه أن يُتمم هذا حفاظًا على الطفل الإلهي. وعلى يوسف البار أن يُسرع في تنفيذ ما أعلنه له الرب في هذا الحلم الثاني.

الحلم من جديد هو وسيلة إظهار الرب عن ذاته ليوسف مُعاونه في مخططه الإلهي. الحلم هو تواصل الرب مع أنقياء القلوب (مت 5: 8). الحلم بالنسبة لنا نحن البشريين هو نوع من الغير واقعية، إلا إنه مبدأ الموضوعية والواقعية. فنحن البشريين حتى إذ لم نعلم جيداً حقيقة أحلامنا إلا إننا نحققها تدريجيًأ في الحياة. في الحقيقة، يتم تحقيق أحلام الله في حياتنا حتى وإن كانت مستحيلة التحقيق من وجهة نظرنا البشرية (راج مز 126: 1؛ أغ 12: 9؛ لو 24: 11. 37). نعم حلم يوسف الثاني لهو مُختلف تمامًا عن الحلم الأوّل، بسبب الخطر الجسيم الذي قد يفقد الطفل فيه حياته إذا توانى، إبيه البشري عن التنفيذ. وهذه الأفعال الأربع التي تتمثل في صيغة الأمر هي:

 1) «قُم»: يشير الأمر الأول في اللغة اليونانية، للنهوض أو اليقظة من النوم. يحمل فعل «قُم» في جوهره دعوة من الرب بالنهوض للحياة مع الحلم الإلهي. وهنا يفاجأنا كالعادة يوسف بإنه لا يجيب في حوار الملاك له كعادته بكلام، فهو الحالم الصامت. بل تأتي إجابته متجسدة في معايشته لما يسمعه من إعلان الرب له من خلال ملاكه. والإجابة تتضح لنا كقراء اليوم في شخص يوسف ذاته. ومدى حبه للرب، الذي يبرز أمامنا كنوع جديد كما يشير إلينا يوحنا قائلاً: «لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ» (1يو 3: 18).

2) «فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه»: الأمر الثاني، الآخذ سواء للطفل وهو في المقدمة قبل أمه. الطفل هو الجوهر الذي يدور حوله الإنجيل المتاوّي لابد وأن يُنقذ وهو الذي تجسدّ لينقذ بشريتنا من الفساد والألم. يتم إنقاذ الطفل وأمّه، مريم صورة إسرائيل والكنيسة، سيتم إنقائهما معًا بواسطة يوسف، رب الأسرة وحارسها. يضمن الله الآب، سلامة مريم ويسوع بين يدي يوسف صورة المؤمن والمُحقق للوعد الإلهي.

3) «واهرُبْ إِلى مِصْر»: يستعيد الرب علاقته بمصر، فهي كبلد لها تاريخ واضح ومؤثر بماضي شعبه. وهنا بمساعدة يوسف يهرب الطفل الإلهي، وهو ملك اليهود الحقيقي، إلى مصر ليعيش بشكل جديد، إبن الله، ما عاشه شعب الله بالقدم. يسوع ليس بمفرده يهرب ويرتحل في صغره، بل بمرافقة مريم ويوسف يقوم بأول رحلة بعيدة عن شعبه. وكما كان الملك فرعون الوثني باحثًا  ومضطهداً لبني إسرائيل هكذا يتجدد التاريخ ويعيش الطفل مع هيرودس الوثني مسيرة الهروب لئلا يُقتل قبل إتمام حلم الله الآب في بشريتنا. يستعيد يسوع، بقيادة يوسف، مسيرة من الخروج الجديدة ذاهبًا إلى أرض عبودية بني إسرائيل، فتصير أرض الحرية والإحتواء لإبن الله وقت الإحتياج. خروج الأسرة المقدسة اليوم، هي عكسية لمسيرة بني إسرائيل. الإبن الإلهي يخرج من إسرائيل، محمولاً على يدي مريم، ومرافقًا برعاية يوسف البار.

يصير، فعل الأمر الثالث، بمثابة تحرر للإبن الإلهي حتى وإن كان يحتوي على الهروب من الشر. إلا إنه من خلال هذه الرحلة تتجدد علاقة الرب من مصر والمصريين فيتصالح الله معهما ويرشد يوسف للجوء إلى مصر حفاظًا علىى حياة إبنه. مصر تصير حارسة وتحتوي في قلبها يوسف ومريم ويسوع. وبهذا يتوسع المخطط الإلهي ويحتوي مصر ولا تصير أرض للعبودية بعد بل تصير أرض للحرية والأمان لأسرة الناصرة. بوجود يسوع بأرض مصر، تتحقق نبؤة اشعيا النبي على مصر القائلة: «وُيعَرِّفُ الرَّبٌّ نَفْسَه إِلى مِصْر، فتَعرِفُ مِصرُ الرَّبَّ في ذلك اليَوم، وتَعبُدُه بِالذَّبيحَةِ والتَّقدِمَة، ويَنذُرونَ لِلرَّب نُذوراً ويوفونَ بِها. […] وتَعبُدُ مِصرُ الرَّبَّ مع أشوُّر. في ذلك اليَوم، يَكونُ إِسرائيلُ ثالِثاً لِمِصرَ وأَشُّور، وبَرَكَةً في وَسَطِ الأَرض، فيُبارِكُه رَبُّ القُوَّات قائِلاً: مُبارَكٌ شَعْبي مِصرُ» (19: 21 – 25).

4) «وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك»: أقامة يوسف البار بأرض مصر، كنوع من الطاعة لملاك الرب وحرصًا على حياة إبنه يسوع. فعل الأمر الرابع يتطلب التوقف قليلاً، إذ ليس لدينا مدة محددة لإقامة يوسف البار بمصر. هذه الرحلة هي مفتوحة لرجل شرقي الأصل، عبراني الجنسية، بفكرنا اليومي. نقرأ مع يوسف هذه العودة لبلاد مصر التي يعرفها بأنها بلاد العبودية. وحين يحتفل بالفصح يستعيد مسيرة تحرر الله لشعبه الذي عضو منه. لم يعش يوسف مسيرة الخروج سابقًأ مع شعبه ولكن بالإيمان وبالإنتماء لشعبه يستعيد هذه العلاقة بمصر. يساعدنا ترحال يوسف اليوم، حفاظًا على حياة الطفل بالدخول في فكر عكسي وجديد. إذ عليه أن يحافظ على أمانته على الشريعة وهلى هويته العبرية في أرض كانت قبلاً عدواً لأجداده. اليوم مدعويين لقراءة ماضينا بشكل جديد مع يوسف أذ يدخل الله ويُحوّل حياتنا ويُصحالحنا بماضينا حتى لو إضررنا للهروب من واقعنا وبلادنا. ففي نهاية الأمر، لابد وأن إيماننا يحملنا كما حمل يوسف وأسرة الناصرة إلى الإنتماء لمخطط إلهي وليس لمخططنا البشري.

خلاصة

     بعد أن توقفنا في مقالنا الحالي على الأربع أفعال التي تحمل صيغة الأمر الإلهي والتي تُمثل قلب حلم يوسف الثاني. هذه الأوامر تجعل أحداث حياة يوسف تتغير فيها بسبب الخطر الذي يواجهه إبن الله. وإدركنا بأن دعوة يوسف منذ البدء مرتبطة بابن الله ومريم خطيبته. يوسف هو المسئول الأول والأخير عن الطفل وأمه منذ أول كلمات الملاك له في الحلم الأول. توقفنا في مقالنا هذا على ما عرضه متى الإنجيلي من الأربع أوامر الإلهية: «قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك». أشار الإنجيلي إلى سبب الأوامر الموجهة ليوسف، مُشيراً إلى سبب تواصل الرب في هذا الحلم ليوسف: «لأَنَّ هيرودُسَ سَيَبْحَثُ عنِ الطِّفلِ لِيُهلِكَه». هيرودس هو العدو الوثني الذي يخشى على سيادته فهو بمثابة ملك على بني إسرائيل وفي أرضهم وهو ليس منهم.  وهذا ما سيدور الحوار عنه في مقالنا اللاحق.

Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير