مُقدّمة
يُختتم الشهر المريميّ بالإحتفال الذي يرتكز بالنص الإنجيلي على لقاء خاص وحميم وفريّد بين إمرأتين. ينفردّ لوقا الإنجيليّ في روايته الإنجيلية برسم تفاصيل هذا “اللقاء الخصب بين الإمرأتين”. يُطلق عليه اللاهوتيون أيضًا “لقاء بين العهدّين”. هاتين الإمرأتين اللتين نحتفل في ختام الشهر المُكرس لإكرام مريم أم الكنيسة بذكرى “زيارة مريم لأليصابات”، إذ يُكلل شهر مايو (آيار)، من خلال الإحتفال بالذبائح الإلهية والدورات (في التقليد الكنسي الإعتيادي بخلاف الوقت الحالي الغير مُتاح ممارسة ما هو إعتيادي بسبب جائحة الكورونا) والذي في مائدة الكلمة نصغي لكلمة الرب بحسب مار لوقا 1: 39- 56. يعلن لنا هذا النص ثاني حوار لمريم مع أليصابات، بعد حوارها الأول مع الملاك جبرائيل (راج 1: 26- 38). سمات مريم بهذا النص متميزة ولها بصمة الفرح. فهي من خلال إنفتاحها بزيارتها لإمرأة متقدمة بالعُمر، تفتح المجال لخلق علاقة مشاركة روحية إذ يتشاركن عظائم الرب الـمُتحققة في جسد كليهن. سنناقش في مقالنا هذا بعض النقاط التي تشير إلى ضرورة التركيز على الدور المريمي فهي يُطلق عليها في الطلبة بلقب “تابوت العهدّ الجديد”. من خلال زيارة الرّبّ “العظيم” لها وإرتكاز نظره عليها وإختيارها أمًا لإبنه. أودّ أن أستعين بلقب العظيم وهو اللقب الّذي أطلقته مريم على الرّبّ. إذ بدورها تخطو بخطواتها الشابة والمُسرعة نحو بيت العجوز أليصابات لتفتقدها وسنتعرف في هذا المقال على بعض الأسباب الّتي دفعتها لهذه الزيارة وعلى المفاجآت الإلهية التي ستعلن من خلالهن. هذا اللقاء لن يتكرر فهو يحمل الجديد لأن الرّب هو المركز والعامل الذي جمعهما. هذا اللقاء ليس كسابق لقاءاتهنّ فهناك أسرار إلهية كُشفت لهنّ ولابد من الإطّلاع عليها ومشاركتهنّ إياها.
- إفتقاد العظيم لمريم (لو 1: 26- 38)
ندرك بايماننا المسيحي أنّ مريم الإنسانة صارت أم الله. وهذا يجعلنا نحبها ونكرمها لأنها دخلت في المخطط الإلهي وجعلت مركز حياتها الثالوث المقدس. فالله الآب إختارها بإفتقاده في بشريتها العادية من خلال كلمات لوقا: «وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة […] وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم. فدَخَلَ إلَيها فَقال: “إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ”» (1: 26- 28). بحلول الإبن في أحشائها الأمومية من خلال كلمات الملاك لها: «لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى» (1: 30- 33). وأخيراً سكنى الرّوح القدس: «إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى» (1: 35- 37). ومن خلال سُكنى الثالوث ساعدت بدروها البشري أن يجد الإلهي سُكنى بيننا نحن البشر (راح يو 1: 14). هذا هو الجانب الإلهي الّذي يودّ لوقا كشفه لنا ويدعونا أن نحتذي بها في تجاوبها السخي بشريًا مع الفيض الإلهي. أما الجانب البشري هو إعطاء الملاك لها دليل واقعي بهذا التدّخل الإلهي بشكل يتقبله فكرها البشري وهو أن تتلمس حقيقة ما قاله لها ملاك الرّبّ بدون أن يسودّها الشك في التحقق مع نسيبتها العجوز والّتي لا تظهر سوى في أحداث ميلاد يسوع هي وزوجها الكاهن. إلا أن لوقا روىّ لنا ما يساعدنا نحن أيضًا على التحقق، كقراء مؤمنين، من حقيقة السر الإلهي ومصداقية ملاك الرّبّ. تم الإفتقاد الإلهي لعالمنا من خلال إفتقاده لمريم وتقديم البرهان اللازم.
- “مركزية الرّبّ العظيم” (لو 1: 36- 37)
لقاء مريم بأليصابات ليس بجديد فهنّ قريبات ولابد مِن تردد مريم لزيارة قريبتها المتقدمة بالعمر كعادة الشرقيين. ولكن لقائهن تلك المرة متميز. والسبب هو مركز لقائهما ليست صلة القرابة بل هو الرّبّ “العظيم”. نعم أن الرّبّ حقق وعده لأليصابات ولزوجها، وبعين الرحمة الإلهية أصغى إلى صلاتهما ومنحهما في شيخوختهما طفلاً متميزاً. لا نسمع بعد، في الأناجيل عن ظهور أسماء أليصابات وزكريا بل نرى ثمرتهما وهو المعمدان في تهيئته لرسالة يسوع. نعلم إفتقاد العظيم تمّ من إعلان أليصابات لعمل العظيم فيها القائلة: «بعد أن إنَقَضت أَيَّامُ خِدمَتِهِ [زكريا] انصَرَفَ إِلى بَيتِه. وبَعدَ تِلكَ الأَيَّام حَمَلَتِ امرأَتُه أَليصابات، فَكَتَمَت أَمرَها خَمسَةَ أَشهُر وَكانت تَقولُ في نَفسِها: “هذا ما صنَعَ الرَّبُّ إلَيَّ يَومَ نَظَرَ إِلَيَّ لِيُزيلَ عَنِّي العارَ بَينَ النَّاس”» (لو 1: 23- 25). فالمرأة العاقر كانت عاراً لأنها لن تضمن إستمرارية إسم زوجها وهو دور الأبناء الحاملين لإسمه مستقبلاً.
كان وقت زيارة مريم لأليصابات وقت صائب إذ تتمتعن المرأتين بروح الإمتنان والإعتراف بسخاء العظيم في حياتها الأسرية بمشاركة كلاً منهما الأخرى فيما يحمله أجسادهن من أعمال إلهية مستحيلة بشريًا. إفتقاد مريم لأليصابات هو تأكيد لما أعلنه لها الملاك في بشارتها القائل: «وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً. فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله» (1: 36- 37). هذا هو البرهان الّي كانت محتادة مريم لسماعه البتول والعاقر حالات مستحيلة فلا ينجبن على المستوى البشري. ولكن عظمة الرب تستطيع ومن هنا بدأت مريم مغامرات إلهية لا تُحصى فقد رأت بعينها وسمعت بأذنها ما تم كشفه لها من سر إلهي بمفردها. هناك خاصتين نوّد التنويه إليهم في لقاء الإمرأتين وهما
- الخاصية الأولى: الفرح
هناك نسمات تشع بالفرح في حوار الإمرأتين. هذا الفرح الذي غيّر حياة كلاً منهما فالبتول والعجوز كليهن ينتظرن إبنًا وليس في التوقيت الذي أرادهن بل في التوقيت الذي أراده الرب لهم فتدّخل بمشروعه في حياتهن ولم يستمرا في حياتهما الأولى بل أصاب حياة كل منهن البهجة والفرح.
- الخاصية الثانية: التسبيح والتهليل
أشار لوقا في سياقه مستخدمًا إستراتيجية روائية غنية في الأدب الروائي وهي “الحوار”. الحوار الذي دار بينهن لم يكن شكوى كلا منهن من التحديات التي تواجهن كصعوبات الحمل بأول طفل بل هو “التهليل”. نعلم أن النساء في هذا الوقت لم يكن لهن أي دور أو مكانة بالمجتمع مثل عصرنا اليوم. إلا أن إهتمام مار لوقا بدور النساء في إنجيله بدأ مع هاتين الـمرأتين. إذ تسعى كلا منهم جاهدة في تسلطّ الأضواء على عمل الله في حياتهما ومركزيته في الخفاء، إنفردن هاتين المرأتين بالحوار عن الرب في بيت بسيط بـ “عين كارم”. أليصابات تهتف وهي تعرف سر مريم وأمومتها الإلهية: «مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُبَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟» (لو 1: 42- 43). ومريم لا تفرح بذاتها بل تهتف: «تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي» (لو 1: 46) هذه مريم أمنا التي تدعونا اليوم للتوقف أمام أعمال العظيم في حياتنا وهو الرّبّ.
- ثمرة لقاء العهدين
مريم تفرح لفرح إليصابات والعكس أيضًا. مدعويين أن نتحاور بصوت عالٍ دون خجل مثل مريم ونقرأ ماضينا وحاضرنا على ضوء عمل العظيم فينا مثل مريم في لو 1: 46- 56. فهي قدمت قراءة لاهوتية عن الرب العظيم بمجرد إفتقاده لها ثم أعطتنا بسخاء قلب إبنها لننال به حياة أبدية. نعم ثمرة هذا اللقاء هو الخصوبة نتيجة العمل الإلهي الذي كان متوقعًا بالأ يتم. إلهنا إله المفاجأت الذي سيستمر في إبهارنا بأعماله الذي كنا نعتقد إنها مستحيلة. أليصابات أنجبت يوحنا (راج 1: 57- 66) وترك العظيم أثره فيها إذ قال المحيطين بها عند ولادته إنّ: «الرَّبَّ رَحِمَها رَحمَةً عَظيمة، ففَرِحوا مَعَها». هذه هي عظمة إلهنا الّتي كُشفت في رحمته التي تفوق كل عقل.
خلّاصة
إخترنا عنوان مقالنا هذا لأنه يحمل إستعارة للأزمنة للقاء العجوز أليصابات بالشابة مريم. والهدف هو ربط الأحداث الكتابية قبل تجسدّ الكلمة كنوع من التمهيد بلقاء العهد الأول الذي سبق المسيح بالعهد الذي إفتتحه وهو جديد لأنه يحمل الخلاص والنعمة للبشرية. ساعدت مريم بدورها التمهيدي في تهيئة البشرية للرّبّ. ومن خلال إفتقاد الرب العظيم لها في الخفاء ولأليصابات دون علم أيا منهن. ساعد ذلك على مشاركة مريم فرح أليصابات وتهليل أليصابات سخاء مريم. هناك ثمرة لكل لقاء بين الإله والإنسان وهي خصبة وغنية. ثمرة لقاء العظيم بمريم هي يسوع وثمرة لقاء العظيم بأليصابات هي يوحنا. حينما يلتقيا المرأتين والجنينين يلتقيا العهدين ويستمر عمل الرب من رحمة لرحمة. فلنسبح العظيم مع مريم ولنتأمل عظائم الرب في حياتنا قائلين: «لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة» (لو 1: 49أ). مدعويين مثل مريم أن لا ننظر إلى ما ينقصنا بل إلى ما منحنا الفيض الإلهي إياه ونشكره فنكون أبناء للآب ولمريم. مريم أم الكنيسة تتضرع لأجلنا ولأجل عالمنا الخاطئ. فلنذهب لنلتقي بالعظيم وبمريم ونستمر في سيرنا نحو العهد الأبدي.