الرّوح القدس في حياة مار يوسف

الجزء السابع من سلسلة المقالات حول القديس يوسف

Share this Entry

«يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرّوح القُدُس» (مت 1: 20)

مقدمة

تماشيًا مع الليتورجيا الكنسية بالكنيسة الكاثوليكية، التي ستحتفل بعيد “العنصرة” هذا الأسبوع أي عيد حلول الرّوح القدس على عالمنا البشري. الرّوح القدس هو قوة إلهية في عالمنا البشري. وأيضًا في العام المُكرس لمار يوسف البتول، راودتني الكثير من التساؤلات لكتابة هذا المقال. ومن أهمها علاقة الرّوح القدس بيوسف الذي رسالته كانت من وراء الكواليس، لدرجة أن متى الإنجيلي الوحيد الذي تعمق في تقديم شخصية مار يوسف لم يشير نهائيًا لحلول الرّوح القدس عليه. بالرغم من أن لوقا لم يتردد في تركيزه بحلول الرّوح القدس على مريم، وأليصابات وزكريا، … لماذا لم ينوّه من بعيد أو قريب متى الإنجيلي، في بشارته، إلى علاقة الرّوح القدس وهو “أقنوم الحب” بمار يوسف؟ وأين دور الرّوح القدس العظيم في هذا الرجل؟ وهل هناك في الإصحاحين الأولين لدى متى أي تنويّه وإن كان غير مباشر عن هذه العلاقة بين الرّوح القدس ويوسف البتول؟ سنتوقف باحتين في مقالنا عن إجابات لهذه التساؤلات.

الرّوح القدس في إنجيل متى

نعلم أن لوقا الإنجيلي هو المُتميز بتركيزه وفرادَّته في الكشف بعمق وبتكرار عن سر الأقنوم الثالث سواء في الإنجيل أم في سفر أعمال الرسل. وهو فريد من نوعه في تقديم قوة الرّوح القدس كشخص إلهي بشكل أكثر قربًا من الإنسان. حينما يتحدث لوقا عن الرّوح القدس يُدخلنا كقراء في عالم إلهي عظيم وجديد ويُشعرنا بأنه قريب جداً منَّا. على سبيل المثال قوة الرّوح القدس التي حلّت على مريم في “أحشائها” فهل هناك قُرب وتجسيد للروح القدس أكثر من ذلك!

ففي الإنجيل بحسب متى يُشار للروح القدس لمرات قليلة منهم مرتين في روايته لأحداث طفولة يسوع في 1: 18. 20. ومرتين آخريتين في 3: 11 على لسان المعمدان المُعلن لمعمودية يسوع بالرّوح القدس ومرة ثالثة في 4: 1 حينما دفع الرّوح يسوع في البرية قبل البدء رسالته العلنية. وأخيراً عند صعود يسوع في خطابه الأخير للتلاميذ وإرسالهم وتعميدهم باسم الآب والإبن والرّوح القدس في 28: 19. وهذا يشير إلى أن متى لا يتفردّ مثل لوقا بكشف رسالة الرّوح القدس في عمله بقدر ما إهتم بالتركيز على الأقنومين الآخرين: الآب والإبن.

في مقالنا التالي سنُحلل إستخدام متى القليل للروح القدس وهذا يشير بأنه مهتمًا أن يُعلم الجماعة التي يكتب إليها بهذا الأقنوم الخفي والقدير. إشارة متى للروح القدس كعمل عظيم شعرت بقوته مريم إمرأته. ففي سرد متى، بُعلمنا كقراء، مؤكداً على أن حبلّ مريم هو عمل إلهي وتم بقوة الرّوح القدس. ويتواصل حضور الرّوح القدس في ذات النص من خلال حلم يوسف الأول مُخبراً إياه ملاك الرب بأن مريم ليست بزانية لأن الزرع الإلهي تمَّ في رَّحمْ مريم، إمرأته، مِن قِبل الرّوح القدس. لذا كثيراً ما يُشار في الطقوس الشرقية بتعبير “مريم عروس الرّوح القدس”. متى الإنجيلي أراد أن يوضح بكلماته التالية قليلة في 1: 18- 21:

أَمَّا أَصلُ يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرّوح القُدُس. وكان يُوسُفُ زَوجُها باراًّ، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً.  وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: “يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرّوح القُدُس، وستَلِدُ ابنًا فسَمِّهِ يسوع، لأنَّه هوَ الّذي يُخَلّصُ شَعبَه من خَطاياهم.

علاقة مريم بالرّوح القدس

لا نعلم الكثير بحسب متى عن مريم “إمرأة يوسف”، كما لقبها الإنجيلي في بشارته. ولكن الخبر الجديد الذي يوّد الإنجيلي إخبارنا، من أول سطور يُدوّنها به هو أن  مريم، إمرأة يوسف، ستصير المكان الخصب ببتوليتها للروح القدس.  بعد أن وضع إسمها في أخر قائمة الأربعة نساء الذين غيرنَّ وجه التاريخ اليهودي (راج 1: 5- 6) وهنَّ غريبات عن أرض فلسطين يُعلمنا بهذا هذا كخبر مُفرح، بعد سرده أصل يسوع البشري مباشرة.

في واقع الأمر لا يخاطبنا متى الإنجيلي بصورة واضحة ولا حتى مباشرة عن علاقة الرّوح القدس بيوسف إلا إنه يُشدّد على نقطة في غاية الأهمية وهي إنتماء مريم له، فهو رجلها أثناء حلول قوة الرّوح القدس عليها من جانب. أما من الجانب الآخر يشير إلى إنتماء يوسف إلى مريم كامرأة له أي زوجة في العُرفّ اليهودي. وأنا وأنت هل ننتمي لشخص آخر ونترك ذواتنا معًا لعمل الرّوح القدس؟ نعم الرّوح القدس في الكتاب المقدس هو أقنوم الحب الذي يقوي الإنسان بشكل غير عادي ويجعل حياته تتحول للأفضل متى ترك حياته لقيادة الرّوح ونعمته.

بتولية مريم

دور الرّوح القدس في حياة مريم ويوسف هو جوهري. من خلال قوّة الرّوح القدس الّتي حلت على مريم وهذا نعلمه من لوقا الإنجيلي الذي يُعطينا الوجه الآخر الذي لم يتحدث عنه متى الإنجيلي فقال على لسان الملاك: «لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله.فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. […] إِنَّ الرّوح القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى» (لو 1: 30- 35).

دور الرّوح القدس مع مريم هو إنه أعطى خصوبة للجانب البتولي في مريم المرأة. فكلاً منا نحن البشريين مدعوين للتواصل مع عمل الرّوح الباطني من خلال تقديم أجمل جزء في أعماقنا “الجزء البتولي” الذي لا يزال نقي وطاهر حتى يدخل فيه الرب بقوة روحه القدوس ويشكلّه وفيه يسكن ويمنح الإنسان ما لا يخطر على بالَّه. لم تعتقد مريم نهائيًا بأنها ستكون أم يسوع الإنسان والإله. وهكذا يوسف لم يختار أن يكون الأب البشري ليسوع ولكن الله الآب إختارهما وجعلهما أبوين ليسوع إبنه. وهنا يمكننا أن نفكر ما هو الجانب البتولي في باطني الذي يمكن للروح القدس أن يحل بقوته فيه ويجعل مني ومنك إنسان روحاني؟ أي يترك مجال لقوة الرّوح القدس؟

مريم حلقة الوصل

كما صار يوسف بأبوته حلقة وصل بين الأجيال السابقة له وجيل يسوع (راج مت 1: 1- 17 )، هكذا مريم صارت ملقة وصل بين الرّوح القدس ويوسف رجلها. رسالتهما لا يمكننا أن نتحدث عن كلاً منهما بشكل منفصل بل هي رسالة مترابطة في أسرة الناصرة لتربية يسوع الإنسان. نعم مريم أعطت جسد بشري ليسوع، ويوسف آمنَّ له رعاية وأبوة وإسم في أسرة بشرية. لذا الرّوح القدس الذي هو بمثابة الديناموس باليوناني أي مانح القدرة والقوة هو الذي هيأ باطن يوسف للتعاون مع الرسائل الإلهية الّتي نفذّها بالفعل طواعية وليس إجباريًا. اليوم كيف يهيأ الرّوح باطنك للتواصل بشكل إيجابي مع عمل الله لك؟ الرّوح القدس هو الرباط الذي جعل أبوي يسوع يجتمعنا تحت سقف واحد إتمامًا للحلم الإلهي الذي تحدثتا عنه في مقالتنا الرابعة من هذه السلسلة.

سر مريم ويوسف إنهما نجحا معًا كزوجين أن يتركا مساحة في علاقتهما لعمل الله من خلال الرّوح القدس. نعم خصوبة الرّوح لا يمكننا قرائتها اليوم كقوة حلّت على مريم بمفردها بل شاركت في هذه الخصوبة يوسف فهي صارت أمًا وهو صار أبًا والعرفان يعود لإختيار الله الآب (الأقنوم الأول) ولعمل الرّوح القدس (الأقنوم الثالث) الذي هيا معًا بتوليين وبشريين لقبول الإبن وهو الأقنوم الثاني. ومن هنا مدعويين لنتأمل علاقة مريم ويوسف الزوجين، بالثالوث، قبل أن يُتمم الإبن رسالته الخلاصية. وهنا يمكننا أن نقول أن هناك دور للزوجة والزوج متبادل في علاقتهما وهي أن يصيرا كلاً منهما قناة للروح القدس للطرف الآخر. مريم حملت الرّوح ليوسف وتعاونّا ليحتصنا إبن الله. وهنا يمكن أن يتسأل الزوجين هل أنا وزوجي أو زوجتي نترك مساحة لعمل الله ليخصب حياتنا الأسرة؟ والغير متزوج/ة، هل  له/ا أن يستجيب مع رسالة الله التي ترغب في أن تعطي خصوبة لكل ما بباطنه؟

نعم دور الرّوح أساسي فهو الّذي عاوّن يوسف البتول لإتمام رسالته في العمق وفي الخفاء. ومن هنا يتضح إقتناعنا ببرارة يوسف الذي فكر أن يردّ مريم إمراته بصمت ولكن الرّوح عاونّ ورافق يوسف ليتخذ قرار أفضل وهوالّذي دفعه ليُتمم ما هو غير معلن بشريًأ ولكنه مُهيأ إلهيًا. وحينما نتلفظ بـ تعبير “إلهي” من الناحية اللاهوتية نعني مشروع الله – الثالوث: الآب والإبن والرّوح القدس.

خلاصة

عمل الرّوح بالعهد الجديد يظهر منذ إعلان الحبل الإلهي بإبن الله في أحشاء مريم، والّذي تم بقوة الرّوح. وهكذا مَهّدّ الرّوح كأقنوم ثالث دور الأقنوم الثاني قبل تجسده. الرّوح حلّ بقوته على مريم البتول، وجعلها أمًا أي خصبة بشكل يفوق الطبيعة البشرية. وصار عمل الرّوح مُستمراً في علاقة مريم بيوسف فجعلهما يتقابلان في تحقيق حلمهما بشكل لائق بتحقيق حلم الله وقبول إبنه في أسرتهما. مريم صارت القناة الّتي إلتقي يوسف البار بالرّوح القدس من خلالها. هكذا اليوم مع مريم ويوسف البشريين الّذي خصَّب الرّوح القدس أسرتهما وأعطاهم إبنه لينشأ بينهم. تواضع يوسف لم يمنعه أن يقبل ما تقدمه مريم له وهو قوة إلهية تجسدّت في الروح القدس.

مقالنا اليوم يحمل رسالة سواء للزوجين أم للمتبتلين. ويكشف لنا متى البشير بفاعلية الرّوح الذي يأتي بقوته ليُخصب حياتنا، نساء ورجالاً، بالرغم من ضعفها وهشاشتها متى قدمنا للرب الجزء البتولي فينا ليخصبه بطريقه تفوق قدرتنا البشرية. دُمتم قنوات تحمل الروح القدس لـمَن يحيط بكم.

Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير