مقدمة
عالمنا اليوم يمر بتجربة فريدة من نوعها، وهي فيروس الكوفيد 19.علينا الإعتراف بانها تجربة مؤلمة. لذا نوّد أن ندعوكم في هذا المقال للعودة بالذاكرة لتاريخنا المسيحي بالماضي لنقرأ على ضوئه أحداث اليوم. بهدف إستعادة الرجاء والذاكرة معًا لنتأمل قدرة التَدَّخُل الإلهي في حياة شعبه بالماضي وحياتنا بالحاضر. علينا أن نعيد قراءة الأحداث بنظرة مرتكزة على “عمل الرَّبّ” وليس على العمل البشري. لأن الرَّبّ هو “الرَّبّ الخالق والقدير”. أما الإنسان ما هو إلا مخلوق يحاول ويبحث وكثيراً ما ينجح وكثيراً أيضًا ما يُخفق. لذا الرَّبّ هو الثابت ولا يتغير لذا علينا أن نقرأ واقعنا من خلال: تعاون الإنسان وقدرة الرَّبّ في أقواله وأفعاله.
- جوهرية عمل الرَّبّ
نعلم جيدا رواية موسى وتحدياته منذ مولده. لكن علينا إدراك أن النص الكتابي الذي يرتكز عليه هذا المقال هو خر 2: 23- 3: 1- 12 بمثابة اللقاء الأول بين موسى[1] والرَّبّ. يمكننا القول أن موسى ذو جنسية مزدوجة إسرائيلي الأصل مصري التنشئة. هو بمثابة المُحرر البشري المستقبلي لشعب إسرائيل والذي سيصير أداة الرَّبّ فهو المحرر الحقيقي لشعبه (راج خر 1-2). في خلال فترة خرجة ومؤلمة في حياة بني إسرائيل سنركز جوهرية عمل الرَّبّ من جانب ودور الإنسان [موسى، دوري/ك] من الجانب الآخر. يروي النص المنوه عنه بعض الملامح التي توضح مدى يأس ومأساة بني إسرائيل ومدى سعى الرَّبّ لإستعادتهم روح الرجاء وحملهم من اللاحياة إلى ملء الحياة بحسب تدخله وتنظيمه الإلهي الذي يتناسب مع حالتهم المأساوية.
- حالة الشعب (2: 23- 25)
وكانَ في هذه المُدَّةِ الطَّويلةِ أَنْ ماتَ مَلِكُ مِصر. وكانَ بَنو إسْرائيلَ يَتَنَهَّدونَ مِن عُبودِيَّتِهِم، فصَرَخوا وصَعِدَ صُراخُهم إِلى اللهِ مِنَ العُبودِيَّة. فسَمِعَ اللهُ أَنينَهم وذَكَرَ عَهدَه مع إِبْراهيمَ وإِسحقَ وَيعْقوب. ونَظَرَ اللهُ إِلى بَني إِسْرائيلَ وعَرَفَ [أي فَهِمًّ] اللهُ.
تمهيداً لهذا النص، نقرأ خلفية عامة نتلمس فيها كقُراء مؤمنين ألمّ بني إسرائيل ومعاناتهم بسبب عبوديتهم التي دامت أربعة قرون تقريبًا. أًلمّ الشعب بدأ يتحول إلى أنين ثم إلى صراخ “للرب”. بالرغم من قدم زمنهم (1300-1200 ق.م.) إلا أن الشعب إلتجأ بصراخه إلى المحرر الحقيقي الذي يمكن أن يتدخل وينقذهم. تَفَاعُل الشعب مع الألم جعلهم “يصرخون”. والصراخ هو نوع من طلب النجدة، مما أدى إلى إنهم نجحوا للدخول في علاقة مع الرَّبّ، بالرغم من حالتهم. هكذا موسى لاحقًا: «فصَرَخَ موسى إِلى الرَّبّ» (خر 17: 4).
إذن شكرا للألم في هذه الحالة لأنه حمل الشعب وموسى على التواصل مع الرَّبّ مباشرة. بدأ الرَّبّ بدروه في خطته التحريرية إذ إهتم وأصغي لهم بل يعطينا النص فعل هام وهو “تذكر” حتى الله يتذكر ما وعد به أجدادهم البطاركة في سفر التكوين. الله يستعيد الذاكرة، ليس لأن لديه الزهايمر بل تذكر ولم ينسى صدى العهد المقطوع مع الأباء مما جعله يرسم مخطط ليحرر هذا الشعب من الأنين والألم والصراخ.
- دور الإنسان (خر 3: 1- 3)
وكانَ موسى يَرْعى غَنَمَ يِتْرُوَ حَمِيه، كاهِنِ مِدْيَن. فساقَ الغَنَمَ إِلى ما وراءَ البَرِّيَّة، وأَنتَهى إِلى جَبَلِ اللهِ حُوريب. فتَراءى لَه مَلاكُ الرَّبّ في لَهيبِ نارٍ مِن وَسَطِ عُلَّيقَة. فنَظَرَ فإِذا العُلَّيقَةُ تَشتَعِلُ بِالنَّارِ وهيَ لا تَحتَرِق. فقالَ موسى في نَفْسِه: ((أَدورُ وأَنظُرُ هذا المَنظَرَ العَظيم ولِماذا لا تَحتَرِقُ العُلَّيقَة)).
موسى المُنغمس في حياته اليومية، بعد زواجه من إبنه يثرون الكاهن فقد تولى عمل زوجته وأخواتها وهو رعية الغنم. يتضح لنا إنه من البديهي وجود موسى على جبل حوريب (سيناء)، إلا أن الرَّبّ بدأ يبحث عن مُعاون بشري ليتمم مخططه حتى يرفع الأنين والمعاناة عن الشعب. يرغب الرَّبّ من علاه في إنقاذ الشعب من كل إلم وأنين لأي سبب، فهل هناك من مُعاون اليوم يلجأ له ليرفع له حالة البشرية المتألمة من الكورونا، ويبث روح الثقة في الرَّبّ ويتشجع بالمُضي قُدمًا فيما يريد الرَّبّ تنفيذه في حياتنا؟
- إحساس الرَّبّ (3: 4- 6)
ورأَى الرَّبّ أَنَّه [موسىٍ] قد دارَ لِيَرى. فناداه اللهُ مِن وَسَطِ العُلَّيقَةِ وقال: ((موسى موسى)). قال: ((هاءَنذا)). قال: ((لا تَدْنُ إِلى ههُنا. اِخلَعْ نَعلَيكَ مِن رِجلَيكَ، فإِنَّ المكانَ الَّذي أَنتَ قائمٌ فيه أَرضٌ مُقَدَّسة)). وقال: ((أَنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب)) فسَتَرَ موسى وَجهَه لأَنَّه خافَ أَن يَنظُرَ إِلى الله.
يتكلم الرَّبّ ويوجه دعوته للإنسان مباشرة كاشفًا عن ذاته. ثم طلب من موسى “خلع نعليه” الذي هو علامة للدخول في علاقة إنتماء للرب منذ أول لقاء له. في هذه الآيات نجد الرَّبّ يرى ويسمع (هي أفعال أمومية تشير إلى تحرك أحشاء الله) كل الأحداث التي تُسبب الألم لبني إسرائيل. لازال الرَّبّ يسمع ويرى كل ما يؤلمنا اليوم. مأساتنا البشرية تجعله يتعاون لصالح البشر. فالرَّبّ العظيم يلجأ طالبًا مساعدة موسى البشرية. الرَّبّ بعظمته يحتاج ليّ ولك ليتمم مخططه الإلهي. فحين ينادي هل هناك من يسمع ويتجاوب؟ نداء الرَّبّ لموسى هو عبارة عن توسل فيدعوه ليرى ويسمع ويفهم موسى ما يراه ويسمعه ويفهمه الرَّبّ. ببساطة دعوته هي أن تتحول أحشاؤه فيشعر بإحتياجات الشعب. موسى لديه رؤية ما، أما رؤية الرَّبّ فهي محتلفة. الرَّبّ هنا يعاون موسى ليرى مأساة الشعب، لكنه “سَتَرَ وَجهَه”. خوف موسى على حياته مَنَعَه من رؤية ما يريد الله إن يريه إياه ويفهم رسالته التي يؤمنه عليها وهي “تحرير الشعب”. التناقض إنه حين يكشف الرَّبّ عن وجهه ويعلن عن هويته للتو موسى يغطي وجهه ويستره. هذا التناقض هو تعبير عن رهبة اللقاء بالله لأن الفكر بالعهد القديم هو “ما مَن أحد يرى الله ويعيش”.
- رسالة الرَّبّ لموسى (2: 7- 10)
فقالَ الرَّبّ: ((إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لأَنقِذَه مِن أَيدي المِصرِيِّين وأُصعِدَه مِن هذه الأَرضِ [ …] . والآن هُوَذا صُراخُ بَني إِسْرائيلَ قدْ بَلَغَ إِلَيَّ، وقَد رَأَيتُ الظُّلمَ الَّذي ظَلَمَهم بِه المِصرُّيون. فالآن، اِذهَبْ! أُرسِلُكَ إِلى فِرعَون. أَخرِجْ شَعْبي بَني إسْرائيلَ من مِصر)).
بناء على إحساس الرَّبّ بمعاناة الشعب، نجده يكشف لموسى عما رأه وسمعه وفهمه، بل كشف عن مخططه وهو “النزول” إلى البشرية المتألمة ليقويها ويعلن لها “الخلاص والتحرير”. ثم يطلب من موسى أن يكون وكيله ويقوم بمهمة التحرير حاملاً رسالة لملك مصر ليُخرج شعبه. إذن دعوة الرَّبّ لموسى ليكون مُرسل من قِبله.
- رد فعل موسى (2: 11- 12)
فقالَ موسى لله: ((مَن أَنا حَتَّى أَذهَبَ إِلى فِرعَون وأُخرِجَ بني إِسرائيلَ من مِصر؟)) قال: ((أَنا أَكونُ معَكَ، وهذه علامةٌ لكَ على أَنِّي أَنا أَرسَلتُكَ: إِذا أَخرَجتَ الشَّعبَ مِن مِصر، تَعبُدونَ اللهَ على هذا الجَبَل)).
إعتراضات موسى بسبب أصالة دعوته وتفهمه لصعوبة واقع حياة الشعب بمصر. فهو واعي للتحديات التي ستواجهه كاللقاء بملك مصر للخروج من البلاد وتَحَمُّل مسئولية شعب لا يحصى عدده بمفرده. ولكن الرَّبّ يُهدئ من روعه وأضعًا بجواره هارون أخيه أذ يتكلم عنه ويقود هو الشعب. إذن حينما يخطط الرَّبّ يراعي أدق التفاصيل ليتمم مشروعه. فيقدم للإنسان كل المساعدات الأساسية والثانوية التي تجعله يؤدي رسالته مهما كانت إمكانياته الضعيفة. وبعد مسيرة من المفاوضات والإعتراضات الموسوية مع الرَّبّ تشجع موسى وقرر الذهاب لفرعون مع هارون. نجد مهارة موسى في إنه لا يطلب من الفرعون الخروج من مصر بشكل مباشر بل يقول: «إِلهُ العِبرانِّيينَ وافانا، فدَعْنا نَذهَبُ مَسيرةَ ثَلاثةِ الأَمٍ في البَرِّيَّة ونَذبَحُ لِلرَّبِّ إلهِنا، لِئَلاَّ يُصِيبَنا بِطاعونٍ أَو سَيف» (5: 3) ذبح الخراف بالنسبة للمصريين في هذه الحقبة كان مقدس ولا يتوجب فعله. لذا على العبرانيين الخروج لتقديم الذبائح. ولكن رد الفرعون هو تعطيل العمل بحجة ممارسة الشعائر الدينية (راج خر 5: 4- 5). رفض الفرعون بسبب احتياجه لعمالة لصنع الطوب اللبن وعدد الشعب الإسرائيلي ضروري لإنهاء العمل، لذا طلب الأجازة مرفوض من قبل فرعون. من خلال تلك المعوقات مع فرعون يتراخى موسى شاعراً بأنه غير أهل لهذه الرسالة ويلجأ للرب القائل: «الآنَ تَرى ما أَصنَعُ بِفِرعَون. فإِنَّ يَداً قَوِيَّةً تُجْبِرُه على إِطْلاقِهم ويَداً قَوِيَّةً تُجبِرُه على طَردِهم» (6: 1).
تتضح يد الله القوية في الفصول 6- 12 بسرد واقعة الضربات العشر والتي تهدف لمعرفة ملك مصر وشعبها مَن هو “الرَّبّ الحقيقي”. بعد الإنتهاء من سرد الضربات العشر والتي إنتهت بموت الأبكار، نجد أن سفر االخروج يعطي إجابة على تساؤل الفرعون “مَن هو الرَّبّ؟” نحن متمحورين حول واقع إسرائيل أو بالأحرى واقعنا المؤلم والمأساوي. إلا أن القضية اللاهوتية، التي يطرحها كاتب سفر الخروج، ليست ألم الإنسان بقدر كشف إله بني إسرائيل لكل الشعوب عن هويته كإله حقيقي. فرعون يجهل الرَّبّ فالضربات العشر بعنفها ما هي إلا وسيلة الرَّبّ في الكشف عن ذاته لملك مصر وشعبها وليست عقاب منه. نعم الرَّبّ حاضر، بل يتدخل بمصر – الأرض الغريبة –لصالح شعبه. هناك آية تتكرر في سفر الخروج كثيراً: “وتَعلَمُ مِصرُ أَنِّي أَنا الرَّبّ” (7: 5). هذا هو هدف الرَّبّ وهو الكشف عن ذاته حتى لمُنافسه فرعون.
الخلاصة
تساؤلاتنا الكثيرة كتساؤل فرعون: «مَن هوَ الرَّبّ فأَسمَعَ لِقَوله وأُطلِقَ إِسْرائيل؟ لا أَعرِفُ الرَّبّ، وأَمَّا إِسْرائيلُ فلَن أُطلِقَه » (5: 2)، ثم من الشعب الذي يجهل إلهه: «هَلِ الرَّبّ في وَسْطِنا أَم لا؟» (خر 5: 2). تتكرر التساؤلات على مدار سفر الخروج بشموليته، فيعطينا السفر إجابات تدريجية لفرعون وللشعب للتعرف على الإله الحقيقي. نحن اليوم فرعون وبني إسرائيل لأننا نجهل بسبب أزمتنا إلهنا. نعم إن تجلي الرَّبّ بطرق مختلفة في سفر الخروج يتم لموسى ثم للشعب بالأمس ولنا اليوم. واليوم قد يعتصرنا ألم التجربة ونتسأل هل الرَّبّ موجود في حياتنا وبيننا أم لا؟ لابد وأن نتنبه هناك أسئلة إيجابية يمكننا على ضوء الإيمان أن نطرحها. ولكن هناك أسئلة مصدرها الشرير تجعل الشكوك تملأ عقولنا وتؤثر على إيماننا فنفقد العلاقة بالرَّبّ وتضعف إيماننا. وهنا لا بد وأن نكون يقظيين في تمييز نوع الأسئلة ولا نتجاوب مع روح الشر الذي يحوم حولنا ليسرق منا الإيمان بالرَّبّ والرجاء فيه.
هل الرَّبّ حقًا خيب أملنا ويتركنا وقت الألم؟ أم نحن الذين لم نلجأ إليه إلا وقت الألم؟ هل نعرف إلهنا القدير أم نجهله؟ الثقة في الرَّبّ هي القوة الباطنية التي نصارع بها الشر، المرض، الخطر، الخطيئة التي هي أعمال الشرير وليست أعمال الله. علينا ألا نتعاون ونستسلم للألم وفقداننا الرجاء في الرَّبّ. والآن بعد تنشيط ذاكرتنا بأحداث الماضي وأعمال الرَّبّ التي كانت مستحيلة في نظر الشعب وموسى وملك مصر. إلا أن الرَّبّ أتم ما وعد به وأزال خيبات أمل شعبه. وهكذا سيتم معنا إيماننا ورجائنا يدعوننا بالأ نستسلم لروح اليأس ونستعيد ثقتنا فيه. لازال إلهنا يسمع صراخنا ويعيش معنا اليوم أحداث حياتنا وبالنهاية سيحررنا من هذا الوباء بيده القديرة كما فعل بالأمس. ويمكننا الختام بصلاة مار فرنسيس: “يا رب إستعملني لسلامك ضع الإيمان في قلبي وقلب من يحيط بي حيث الشك في عملك. ضع الرجاء حيث الغموض واليأس”. يمكننا أن نجعل كلمات مُرتل مزامير الثقة: «والآنَ فماذا أَنتَظرُ أَيُّها السَّيِّد؟ ولا رَجاءَ لي إِلاَّ فيكَ» (مز 39 8).
[1] يمكننا أن نضع أسمائنا بدلاً من موسى فهذا يساعدنا على الدخول بعمق في النص الكتابي.