وِلاَدة “الـمَعمَدان” الشَّاهد والشَهيّد

عيد يوحنا المعمدان 24 حزيران

Share this Entry

«لا تَخَفْ، يا زَكَرِيَّا، […] ستَلْقى فَرَحاً وابتِهاجاً، ويَفرَحُ بِمَولِدِه أُناسٌ كثيرون. لِأَنَّه سيَكونُ عَظيماً أَمامَ الرَّبّ […] ويَمتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُس وهوَ في بَطْنِ أُمِّه[…] فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّبًا» (لو 1: 13- 8)

مقدّمة

نحتفل في الرابع والعشرين من شهر يونيو من كل عام بعيد ولادة يُوحَنَّا الـمَعمَدان. أما في التاسع والعشرون من أغسطس، نحتفل بعيد إستشهاده كشاهد وكشهيد معًا. الـمَعمَدان هو الذي قدَّم حياته في سبيل قول الحق أمام السلطات السياسية دون خشية للنتائج التي قد تعرضَّ لها. الـمَعمَدان هو الوحيد الذي تحتفل به الكنيسة الكاثوليكية في ليتورجيتها مرتين من كل عام، عيد ولادته وعيد إستشهاده، لا يتم الاحتفال بعيد ولادة أي قديس آخر سواه. والسبب هو دوره الفريد كـ “رائد” ، فهو “الصوت الصارخ في البرية” (يو 1: 23)، بحسب التاريخ الخلاصي. لذا في مقالنا هذا المُستند على الكتاب المقدس نرغب في نتوقف أمام النص الذي دوَّنهُ مار لوقا ليشير عن الفرح الذي عمَّ على أسرة يُوحَنَّا المنتظر، أقاربه وجيرانه بل والأهم الهدف الذي وُلِدَّ لأجله الـمَعمَدان وعلاقته برسالة يسوع الخلاصية. كلمات لوقا الإنجيلي غنية بالملامح التي تُميزه وبالتعاليم التي يبثها المُعَمِّد من خلال شهادته وحضوره الحي ورسالته السامية ليحملنا لطريق الملكوت الإلهي. الـمَعمَدان لم يكن لقب له بل تم تلقيبه بدوره ورسالته التمهيدية التي سبقت رسالة يسوع الجوهرية. لذاسنتعرف في هذا المقال على بعض الملامح اللاهوتية التي تمتع بها الـمَعمَدان، قبل ولادته.

  1. الإبن الـمُنتظر (لو1: 11- 25)

السرد اللوقاوي، بالإصحاح الأول، يكشف لنا الكثير عن هوية الـمَعمَدان قبل وأثناء وبعد ولادة يُوحَنَّا الـمَعمَدان. يمنحنا لوقا رؤية ذات مساحة كبيرة وخاصة عن هذا الطفل قبل ولادته. والدي الطفل الـمُنتظر كانا من أصل كهنوتي وكانا شيخين طاعنين بالسن. وبسبب سلالتهم الكهنوتية لم تنقطع صلاتهم بل طلبتهم بأن يمنحهم الرب من فيضه إبنًا. وبالفعل بحسب توقيت الرب المناسب، الذي إعتقادنا البشري إنه تأخر بسبب شيخوخة الوالدين،  إلا أن الرب إستجاب وهذا ما نعلمه من خلال حوار ملاك الرب مع زَكَرِيَّا، معنى إسمه بالعبري “الله تذكر”. نعم تذكر طلبته ومنحه إبنًا ذات ملامح خاصة إذ نتعرف في مقالنا هذا عن أهم الصفات التي سيتمتع بها هذا الطفل قبل ولادته. وهذا الكشف الإلهي لم يتم كثيراً في النصوص الكتابية بل نراه في العهد الأول مع قليلين مثل شمشون (راج 13: 1- 7) وفي العهد الثاني مع يسوع (راج لو 1: 29- 39). وتتميز ملامح يُوحَنَّا الـمَعمَدان وهو الطفل الـمُنتظر بالنقاط اللاهوتية البارزة لدى لو 1: 11- 25.

  1. إسم الطفل الـمُنتظر

في الهيكل، وهو موضع سكنى الرب، بحسب تقاليد العهد الأوّل، يلتقي ملاك الرب، بأب الطفل الـمُنتظر، الذي منحه الرب الإسم وهو “يُوحَنَّا” بالعبري يعني “الله يتحنن”. نعلم إن هذا فكر جديد، بخلاف العادات اليهودية، إذ يُعطى إسمًا بخلاف إسم الأب. بحسب العادة يُعطى للإبن البكر إسم أبيه ليستمر نسله فيه كعادات اليهود. إلا إننا هنا تُكسر التقاليد، فالرب هو مانح النعمة للوالدين، لهدف معين، وهو الذي أعطي إسمًا للإبن الـمُنتظر من زكريا وأَلِيصاباتُ والذي يعني “الله أقسَّم”. وعلى ضوء هذا نعلم السبب الذي جعل أَلِيصاباتُ أمه تتدَّخل، عند ختان الطفل يُوحَنَّا، نتيجة صعوبة أبيه زكريا في الكلام، إذ تصرخ مُعلنة للجيران والأَقَارِب الذبن: «جَاؤُوا في اليَومِ الثَّامِنِ لِيَخِتنوا الطِّفْلَ وأَرادوا أَن يُسَمُّوُه زَكَرِيَّا بِاسمِ أَبيه. فتَكَلَّمَت أُمُّه وقالت: “لا، بل يُسَمَّى يُوحَنَّا”» (1: 59- 60). وحين يعترضوا الأقارب والجيران على قول أَلِيصاباتُ ويلجأوا لزكريا، يدهشهم بكتابته: «اِسمُهُ يُوحَنَّا» (1: 63). هذا التأكيد من قِبل الوالدين للإسم الـممنوح من الرب هو علامة إحترام وطاعة للرب المانح العطية لهم. مما أثار تعجبهم إذ يروي لوقا: «كانَ كُلُّ مَن يَسمَعُ بِذلِكَ يَحفَظُه في قَلبِه قائلاً: “ما عَسى أَن يَكونَ هذا الطِّفْل؟” فَإِنَّ يَـدَ الرَّبِّ كانَت مَعَه» (1: 66).

  1. ما هو سبب عظمة يُوحَنَّا؟

يسرد لوقا ملامح هذا الطفل الإعجازية قبل ولادته، فهو في الـمشروع الإلهي له دور متميز وفريد، بل مرتبط جوهريًا برسالة إبن الله، يسوع. أعلن ملاك الرب لزكريا قائمة بصفات هذا الطفل التي بها رائحة قداسة متميزة بفقر وتواضع بأنه :«سيَكونُ عَظيماً أَمامَ الرَّبّ، ولَن يَشرَبَ خَمراً ولا مُسكِراً، ويَمتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُس وهوَ في بَطْنِ أُمِّه، ويَرُدُّ كَثيراً مِن بَني إِسرائيلَ إِلى الرَّبِّ إلهِهِم ويَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه، لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حِكمَةِ الأَبرار، فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً» (1: 16- 17).  بحسب هاتين الآيتين هناك ملامح لتلك العظمة التي طرأت على يُوحَنَّا سواء أمام الرب أم أمام الناس وأهمها:

الأولى: العلاقة القوية بين الروح القدس ويُوحَنَّا الجنين بعد هي سبب جوهري في عظمته. إذ قبل أن يتم الحبل به، نعلم من ملاك الرب بمستقبله المقدس، وكقراء مؤمنين نكتشف إنه سر هذا الطفل المُتميز هو كونه في إنه سيصير “موضع للروح القدس” قبل ولادته. ومن هنا نكتشف سبب عظمته كانسان، ليس بسبب تربية والديه الكهنوتية ولا بسبب التقاليد اليهودية المُحافظة على العهد بقدر تخصيص الرب له وإختياره بمنحه روحه القدوس. وهنا صارت نعمة الرب له «نعمة فوق نعمة» (يو 1: 17).

الثانية: دوره في إهتداء وتوبة الكثيرين من بني إٍسرائيل. نعلم أن يُوحَنَّا كزكَريَّا وأَلِيصاباتُ شخصيات كتابية تلعب دور أساسي بين العهدين. أدوارهم تجذرت في العهد الأول وصاروا شهود على بداية العهد الثاني الذي تم إفتتاحه في ولادة يسوع إبن الله من مريم نسيبة أَلِيصاباتُ. وهذا ينم على دور يُوحَنَّا النبوي فهو آخر الأنبياء، المُهيئين الشعب للرب، والذي إنتهت حقبتهم باستشهاد “نعمة الله، يُوحَنَّا”. من خلال معمودية اليهود بالماء كما أعلن لاحقًا يُوحَنَّا بنفسه: «يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ، مَن لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه . أَنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأَمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس» (مر 1: 7- 8). دوره تمهيدي إذ يعد فقط الشعب خارجيًا ليستعدوا لقبول معمودية الروح القدس من يسوع ذاته.

الثالثة: صلة التشابه والتطابق بينه وبين إيليا النبي. تشابههما في إعتناق الحياة الزاهدة والمتقشفة التي لم يعيشها سوى بعض رهبان جماعة قمران في عصر يُوحَنَّا. سواء البرية كمكان ليتواصل بالرب فيها، فصارت بيتًا له على مثال إيليا على جبل الكرمل (راج 1مل 17- 19). الشكل الخارجي في الملابس والمأكل والمشرب حتى أن يسوع ذاته إستشهد به كامتداد لايليا بنفس روح النبؤة التي ربطتهما فقال: «فَجَميعُ الأَنبِياءِ قد تَنَبَّأوا، وكذلك الشَّريعة، حتَّى يُوحَنَّا. فإِن شِئتُم أَن تَفهَموا، فهُو إِيلِيَّا الَّذي سيَأتي» (مت 11: 13- 14).

  1. إرتكاض يُوحَنَّا الجنين

عند زيارة مريم لأَلِيصاباتُ، بعد قبولها بشارة ملاك الرب، تهللت أَلِيصاباتُ العجوز التي تنتظر إبنها البكر إذ هَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: «مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني» (لو 1: 43- 44). ليونة هذا الجنين قبل ولادته وعذوبته الناتجة من حلول الروح القدس عليه هو السبب الذي يجعله أن يكون سببًا لفرح أمه وفرح اللقاء بالإنسان والإله معًا ولازالا جنينين. يُوحَنَّا رسول الفرح الذي يتهيئته لشعب الله يُفرح قلب الرب بعودة شعبه إليه مبدئيًا حتى يتصالح نهائيًأ في صليب إبنه. هذه الحركة الناتجة من الجنين كثيراً ما فسرها أباء الكنيسة بأنها علامة سجود ليسوع الذي لازال جنيًا. فلنقبل دعوة الجنين لنا اليوم بالفرح والسجود بسبب حضور الرب في حياتنا إلهًا وربًا.

  1. نشيد زكريا الأب (1: 76- 80)

بعد أن أنشد زكريا أعمال الرب العدائبية بالماضي وتدخلاته في تاريخ شعبه في بداية نشيده، الذي إفتتحه بعد صمت دام تسعة شهور إذ يُدهشنا بأول كلماته: «تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسرائيل لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَه وَافتَداه» (1لو : 68). ثم يفاجأنا بأن الروح القدس أناره وألهمه بمستقبل إبنه إذ علم مُسبقًا بدور إبنه النبوية منذ ولادته. كان بالأحرى أن يصير الـمَعمَدان كاهنًا كأبيه إلا إن الرب خصصه ليأخذ طريق جديد محتضنًا مخطط الرب العظيم. ويعلن زكريا في نشيده ما تحققه من كلام ملاك الرب له منذ تشعة شهور: «أَنتَ أَيُّها الطِّفْلُ ستُدعى نَبِيَّ العَلِيّ لأَنَّكَ تَسيرُ أَمامَ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَه وتُعَلِّمَ شَعبَه الخَلاصَ بِغُفرانِ خَطاياهم. تِلكَ رَحمَةٌ مِن حَنانِ إِلهِنا بِها افتَقَدَنا الشَّارِقُ مِنَ العُلى فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام» (لو 1: 76- 79). إكتشف زكريا الأب جمال عمل الله في حياته الزوجية وفي النسل الممنوح له وأعلنه لنا. كم من أعمال وعجائب يكشفها الرب وعلينا أن نباركه ونسبحه كزكريا في يومنا المعاصر

الخلاَّصة

يختتم لوقا الإنجيلي حدث ولادة يُوحَنَّا قائلاً: «كانَ الطِّفْلُ يَترَعَرعُ وتَشتَدُّ رُوحُه. وأَقامَ في البَراري إِلى يَومِ ظُهورِ أَمرِه لإِسرائيل» (لو 1: 80). على ضوء ما تعمقنا فيه في هذا المقال بمناسبة الإحتفال بمولد المهيئ للرب والذي كشف لنا حياتنا الغنية بالماديات والفقيرة بالروحانيات. مدعوين أن نصغي لرسالة الـمَعمَدان الذي أتي ليجعل الطرق مستقيمة للوصول للرب بدون تعرج وإنحراف. قد مدحه يسوع وأثنى عليه:« الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا الـمَعمَدان» (مت 11: 11). نعم ونحن اليوم، الذين تقبلنا رسالة يسوع الكلمة التي صرخ يُوحَنَّا لأجلها منذ ميلاده وحتى إستشهاده. فليكن لنا الشعلة التي نستعين بها لنستنير في طريق الرب المستقيم، لذا مدعوين اليوم كمؤمنين أن نصغي للصوت الذي لازال يصرخ في عالمنا صارخًا بجراءة، وموشوشًا بوداعة في أذننا قائلاً: «قَوِّموا طَريقَ الرَّبّ» (يو 1: 23). هذا هو الميلاد الحقيقي للمعمدان. إذ في كل مرة أصغينا لندائه نجحنا في إتمام رسالته بتحضر ذواتنا للقاء الأبدي بالرب وتهيئة قلوبنا ليسود بملكه عليها. عيد مبارك وشفاعة الـمَعمَدان ترافقنا.

Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير