مقدّمة
موضوع “العناية” هو موضوع حاليّ للغاية ومُعاصر لزمننا سواء من الناحية الإنسانية أو الكتابيّة، خاصة في اللاهوت اللوقاوي. من خلال هذا الموضوع نواجه قضية مثيرة للواقع اليومي، وهي “الاهتمام بهشاشة المرء”. يُخبرنا لوقا في الإصحاح العاشر بالأعداد 25- 37، برواية يسوع لمثل السامريّ الصّالح ، الذي رواه حصريًا بين الأناجيل الإزائية. نحاول في مقالنا هذا أن نفهم تفسير معنى “العناية” في روايته وفي فكره. يوضح لنا لوقا بعض العناصر الأساسية لقراءة التص الكتابي، والتي أود أن أؤكد عليها ثلاث نقاط أساسية في لاهوته: أوّلاً: المكان الخاص وهو “الرحم الإلهي”. ثانيًا: معنى فعل “رعاية” في النص اللوقاوي. ثالثًا. سأقدم شرحًا من خلال أداة تساعد على “المواجهة” للتحديات الداخلية والخارجية في عملية النضج الإيماني للتعبير عن “إستعادة الإهتمام بالعالم الباطني” بطريقة ملموسة.
في واقع الأمر، القاء الأمثال في العهد الجديد هي جزء من النوع الأدبي السردي للكتاب المقدس وتلعب دورًا هامًا في تبسيط الأسرار الإلهية. يمنحنا المثل المأخوذ ضوءَ خاصًا لفهم كيفية إقتراب المرء أولاً من باطنه المتألم والجريح. في الواقع، يحمل كل شخص في داخله جزءًا بتوليًا نقيًا وجميلًا، وآخر ضعيفًا ومحتاج إلى رعاية. عندما نفقد التوازن بين الاثنين ، نسقط على الطريق ونحيا، ونصير مثل النصف الميت الذي يقدمه مثل السامريّ الصالح. وفي هذا الوضع مخاطرة إذ نترك أنفسنا نموت ونحن لازلنا على قيد الحياة، لأننا نهمل الجزء الهش داخلنا دون الإهتمام به.
عندما نعتني بجروحنا بعد ذلك سنكون قادرين على فهم وعلاج ضعف الآخرين، في الواقع سنكون أكثر مصداقية. يضع لوقا أمامنا عالم التوراة والشريعة في صورة “الضعيفظ الهشّ”، الذي يبدو سلبيًا، لا نسمع له صوت ولا رد فعل ولا حتى علامة إمتنان لما تمّ معه من معروف من جانب السامري. هذا الإنسان يُمثلنا جميعًا عندما نمر بفترات ضعف، فنصبح غرباء عن أنفسنا، وعندما نتجاهل هذه الحقيقة الضعيفة، فإننا نسعى للهروب منها، ونكتفي بالموت ونحن على قيد الحياة. في حين أنّ الجزء الهش الذي يصرخ بداحلنا ينتظر الإهتمام والعناية به بحنان حتى يتم التوفيق بينه وبين تكاملنا الإنساني المسيحي.
- قراءة النص
أوّد أن أنوّه إلى الحدث السابق والمهم الذي سرده قبلاً لوقا في الأعداد 21- 24 من ذات الإصحاح العاشر.إذ نسمع صوت يسوع الذي يتهلل بالروح قائلاً: «أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماءِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذِه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وَكَشَفْتَها لِلصِّغار….». ثم يُذكر لوقا على الفور مثل السامري الصالح كإجابة على سؤال أحد الحكماء المتخصصين بالناموس، قائلاً بالنص لو 10: 25- 37:
25وإِذا أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ قَد قامَ فقالَ لِيُحرِجَه: ((يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟)) 26فقالَ له: ((ماذا كُتِبَ في الشَّريعَة؟ كَيفَ تَقرأ؟)) 27فأَجاب: ((أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ)). 28فقالَ لَه: ((بِالصَّوابِ أَجَبْتَ. اِعمَلْ هذا تَحْيَ)). 29فأًرادَ أَن يُزَكِّيَ نَفسَه فقالَ لِيَسوع: ((ومَن قَريبـي؟)) 30فأَجابَ يَسوع: ((كانَ رَجُلٌ نازِلاً مِن أُورَشَليم إِلى أَريحا، فوقَعَ بِأَيدي اللُّصوص. فعَرَّوهُ وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيْت. 31فاتَّفَقَ أَنَّ كاهِناً كانَ نازِلاً في ذلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى. 32وكَذلِكَ وصلَ لاوِيٌّ إِلى المَكان، فَرآهُ فمَالَ عَنهُ ومَضى. 33ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، 34فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. 35وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: ((اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي)). 36فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هؤلاءِ الثَّلاثَة، قَريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيدي اللُّصوص؟)) 37فقال: ((الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة)). فقالَ لَه يَسوع: ((اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك)).
يدور الحوار بالنص في النص بين معلمين، أحدهما للناموس والآخر يسوع المعلم الوحيد للحياة الحقيقية، حول تساؤل: كيف أرثّ الحياة الأبدية، أي حياة الله بعد الموت؟ المقطع يجعلنا نتحرك مع السلوكيات العشر لعدو اليهود، وهو السامري 10: 25-37.
- قلب المحتوى (10: 31-35)
الآن ، سنرى النقاط الجوهرية والرئيسية الثلاثة للنص، المكان والفعل والأداة التي يشير إلينا النص بهم للعناية بالعالم الباطني في الآيات 33- 35؛ 37.
يقدم لنا لوقا في العدد 33 المفتاح الأول الذي يشير إلى خاصية أساسية في لاهوته والذي أقدمه كمكان أساسي. من خلال إستخدامه لمصطلح “أخذته الشفقة” الفعل الثاني الذي يُنسب للسامري بالنص، هذا الفعل يتكرر مرتين في المثل ، وفي أصله العبري يشير إلى مصطلح Rehmim ~yiÞmxe(r وبالعربي “رحَّمْ” أي “الرحم / الأحشاء”؛ يتم التعبير عن اليونانية لوقا من خلال إستخدامه للفعل Splagnizomai splagcni,zomai وهو فعل مركزي في إنجيله، فقد إستخدمه لوقا في ثلاث مناسبات بانجيله: هنا وفي نص أرملة نايين (7: 13) ومثل الأب الرحيم (15: 20). يشدد لوقا في موقف السامري عند رؤيته للنصف ميت، فيروي: « بعد أن رآه، على الفور» «أخذته الشفقة». السامري تأثَّر بالشفقة التي وصفتها حركة أحشائه الباطنية التي ضاقت لرؤيته هذا المتألم على الأرض. من هلال هذه المشاعر يروي لوقا عشرة أفعال في سلوكياته التالية تجاه هذا المُلقى على الأرض (راج مر 1. 41؛ 6 ؛ 34؛ 8 : 2).
يُذكرنا لوقا بأحشاء السامري التي تحمل رمز لأحشاء الله التي تتم في “الرحم الإلهي”. وتعبر رواية لوقا من خلال أحشاء الله عن حركة دائرية تربط القلب بالعقل لتجعلنا نشعر بتأثر الجزء الأكثر حميمية من الله بضعف الإنسان، من أجل أن يولد شخصًا ناضجًا عابراً بالضعف الخاص. في الواقع ، يصير “الرحم الإلهي” مكان ولادة جديد للشخص الضعيف. أقترح عليكم أن نتعلم دخول هذا الرحم الإلهي من أجل التعايش في فترة الهشاشة وإفراغها من أجل علاج ضعف المرء الباطني. وبذلك يصبح “الرحم الإلهي” مكان الرحمة الذي يحتوي على أحشاء الأب والأم ، مع العلم أن الله الآب – الأم. في الواقع ، تصبح “رحمته” روح أحشائه الإلهية، حيث نشعر بأننا مرافقين ولسنا وحيدين في وقت ضعفنا، بل تحتضننا نظرة الرب الصالحة.
في الآيات 34-35 ، المفتاح الثاني الذي يظهر في الفعل الذي استخدمه لوقا» اعتني«، نرى أن إستخدامه بالمرة الأولى في نهاية العدد 34 في زمن تام وتشير إلى إعتناء السامري. في سلوكه الثامن. ثم يذكر لوقا لفظ “اهتم به”. المرة الثانية في العدد 35 حيث كاد السامري يتوسل إلى صاحب الفندق قائلاً: “اعتني به” في فعل أمر. في العدد 34. لقد اختبر السامري الإهتمام بضعف اليهودي، هذا هو الاستخدام الأول. في الثانية ، يوصي السامري ويطلب من شخص آخر أن يكون له نفس التجربة التي عاشها. في الحقيقة، أود أن أؤكد إنسانية أفعال وسلوك السامري، التي لمست قلب التوراة اليهودية التي لا يعرفها.
أما بالنسبة للأداة التي تساعد في الإهتمام بالضعف باعتبارها المفتاح الثالث في رواية لوقا، تقدم لنا طريقة لمواجهة هشاشة العداء دون الهروب. كانا السامري واليهودي أعداء في ذلك الوقت. يحمل كل شخص كلا الشخصيتين في الداخل بصراع بين العداوة والقبول. من جانب نرحب بالجزء البتولي بباطننا ونرفض الجزء الهش بداحلنا. هنا يساعدنا لوقا على علم كيفية مواجهة العدو الداخلي الذي يجعل الشخص الحميم أكثر ضعفًا بنظرة رحيمة، ويمس الضعف بالحنان. هذه المواجهة هي الأداة الخفية في “معرفتنا كيفية التعامل” مع ضعف الطرف الأضعف الذي نراه في العبارة التي أعلنها يسوع في العدد 37: “اذهب وافعل الشيء نفسه”. إنه يوضح لنا الشيء الأساسي الذي يتوجب علينا القيام به، وهو فعل الاعتناء بالنفس، بالتوفيق بين الذات الحميمة، وتعلم مواجهة العداء الداخلي، للتواصل إلى مرحلة انسجام بين جزئين: البتولي والهشّ، آداة المواجهة يتم معايشتها بداخل “الرحم الإلهي”. من خلال تجاوز ضعف المرء، فإنه يساعده فيما بعد على إمكانية الاهتمام بضعف الآخرين.
النص اللاحق من لوقا 10: 38-42 هو المثال الذي اعتنى فيه يسوع بذاته، فقد طرقّ باب الأصدقاء المحبوبين لعائلة لعازر في بيت عنيا. حيث يترك ذاته “ليُعتنى به” من خلال الشقيقتين مريم ومارثا.
من خلال النص يمكننا أن نُطبق بعض منه على واقعنا في القرن الحالي. هذا يدعوني لتقديم قراءة شخصية تفسيرية مني شخصية، وهو ليس كلمة الله ، ولكن ما هي إلا طريقتي الخاصة لمساعدتك على معايشة النص بشكل حيات من خلال كل ما ذكرناه حتى الآن:
شخص (بدون اسم) ينحدر من كبريائه نحو التواضع ويصطدم باللصوص الذين يمثلون نقاط الضعف، على سبيل المثال: الأنا المتضخمة، والعلاقات الثقيلة، والمخاوف الداخلية وأيضًا الخارجية منها مثل الأعمال الشخصية يوميا مما جرد هذا الانسان من كل شئ: من طاقتها وجمالها ثم غادروا وتركوه نصف ميت. بالصدفة ، بينما كانت يسير هذا المرء في نفس طريقه اليومي، توقفت أمام المرآة وعندما رأى ذاته هرب ومرَّ إلى الجانب الآخر. ووصل أيضًا إلى مكان مقدس يبدو وكأنه كنيسة وربما قام بتناول القرابنا المقدس. ثم مرّ مرة أخرى، ورأى نفسه في المرآة، وإستمر في الهروب ثانية. وعند الفجر، قبل الانغماس في الالتزامات اليومية، أثناء مروره على المرآة كالعادة، توقف وحدق في ذاته وأخذ يشفق عليها. تأمل ذاته، ولاحظ الجروح وخجل من ذاته. حمل حقيبة الظهر على كتفيه، ودخل كنيسة صغيرة، وهناك بدأ في تضميد جروحه، وصب زيت الرحمة ونبيذ المغفرة. هناك اعتنى بضعفه تحت نظر الرب الرحيم. في اليوم التالي، أخرج شيئين، ورقة وقلم، وكتب لذاته: “من فضلك، اعتني بي، اقترب وكن قريبًا مني”. وإستمر في الكتابية: “تذكر أن ما سوف تضمده من جراحي اليوم، سوف تساعدك لتضميد جراح قريبك غدًا، وستصبح أكثر مصداقية”.
خاتمّة
في الختام ، قدمنا ثلاث كلمات أساسية الرواية اللوقاوّية:
أولاً وقبل كل شيء، “الرحم الإلهي” كمكان يعلمنا تقنيات لعلاج ضعف المرء، مصحوبة بحضور إلهي رحيم، من خلال مصطلح “أخذته الشفقة”.
ثانيًا، فعل “اعتنِ” الذي ركزنا عليه على حد سواء لمتابعة التفسير وإمكانية تطبيقه في حياتنا اليومية.
ثالثًا، الأداة الفعالة لـ “معرفة كيفية مواجهة” التحديات الداخلية والخارجية حتى لا نجد أنفسنا مجردين من الحياة، ونضعها داخل الرحم الإلهي، مدركين إننا لسنا بمفردنا.
كل ما ركزنا عليه يرشدنا إلى النمو في معرفة “سر الله” الذي ينكشف حاليًا في الولادة الجديدة من الباطن، وذلك بفضل العبور لفترة الضعف لاستعادة السلام الداخلي والمعاونة من خلال علاقتنا بالآخرين.
باختصار ، هدفي الذي أود التوصل إليه من خلال قراءتي الكتابية للنص هي: “لابد وأن نكون أولاً سامريون لأنفسنا، عندها فقط ، يمكننا أن نكون سامريين نتوجه لنهتم بأوجه ضعف الآخرين”.
كلمة يسوع الأخيرة التي يهمس بها في أذنه اليوم هي: “اذهب وافعل الشيء نفسه، بعد أن تعتني بضعفك”.
د. سميرة يوسف (باحثة في الكتاب المقدس)