Pixabay, CC0, creative commons

قراءة كتابية: على مِثالِ صُورَةِ الابنِ البِكر – إِخَوةٍ قائمين

هَل الرَّبّ في وَسْطِنا أَم لا؟ (خر 5: 2)

Share this Entry

المقدمة

على ضوء بحثنا في سفر الخروج عن إجابة للتساؤل الذي رافقنا في المقالين السابقين: “هل الرَّبّ في وسطنا أم لا؟” سنتوقف في مقالنا التالي، لنتأمل معًا قضية “موت وقيامة الإبن البكر” في اللاهوت الكتابي. وسننطلق من الضربة الأخيرة التي وُجهت نحو كل الأسر المصرية وهي “موت أبكار المصريين”. وهي القضية التي تجعل تساؤلاتنا عديدة كيف يسمح الرَّبّ بهذا؟ لذا علينا أن نتفق منذ البدء أن للرب مشروعه الخلاصي والصالح لكل البشرية والألم هو جزء من واقعنا البشري والتي تلعب فيه حرية الإنسان دوراً كبيراً. سنتأمل من خلال هذه القضية، أيضًا “موت إبن الله البكر وقيامته”. في واقعنا اليوم، قضية الموت تثير أحزاننا وتفتح جروحنا لأننا جميعًا مررنا بفقدان وموت بعض أحبائنا، لأسباب عدة: المرض أو الحوادث أو الأزمات، أو الطبيعة الجسدية، … وأخيراً بسبب داء الكوفيد الذي تسبب في موت الكثيرين في فترة قصيرة. سنعرض في هذا المقال “قضية موت الإبن البكر” مُستعنين بمرافقة مريم التي تألمت لفقدان بكرها وتهللت بقيامته المجيدة منغمسة في السر الإلهي.

  1. تحذير الرَّبّ

نقرأ في سفر الخروج على مستوى القراءة ظاهريًا ما يُسمى بجبروت إله بني إسرائيل الشكلي من خلال ضرباته العشر للمصريين. فقد بدأت هذه الضربات بالماء المُتحول إلى دم (راج خر 7: 14ت)، والتي انتهت بموت كل أبكار الأسر المصرية (خر 12: 29ت). فقد حَذّر الرَّبّ فرعون منذ أول لقاء له مع موسى مؤكداً: «إِسْرائيلُ هو ابنِيَ البِكْر. قُلتُ لَكَ: أَطلِقِ اَبنِي لِيَعبُدَني، وإِن أَبَيتَ أَن تُطلِقَه فهاءَنذا قاتِلٌ آبنَكَ البِكْر» (خر 4: 22- 23). هذه قراءة تشمل فكر وعقلية العصر 1300- 1250 ق.م. وهنا قدم لنا المحرر الكتابي لسفر الخروج رؤية للرب بتعبيرات بشرية تسود عصره وهذا الفكر في التحرير كان سائد. حقًا فرعون هو ملك وإله المصريين ولكن كيف له أن يستسلم لكلام أحد عبيده الإسرائيليين؟ أينتصر عليه الإله المنافس له برسالته. ونجد أن نداء الرَّبّ لفرعون مصر يتكرر مراراً متوسلاً: «أَطلِقْ شَعْبي لِيَعبُدَني».

  1. جهل الإنسان

من الناحية اللاهوتية نجد إن سفر الخروج يقدم لنا إجابة على تساؤل الفرعون: «مَن هوَ الرَّبّ فأَسمَعَ لِقَوله وأُطلِقَ إِسْرائيل؟ لا أَعرِفُ الرَّبّ؟» (خر 5: 2). بينما نحن كقراء مؤمنين متمركزين على معاناة بني إسرائيل (تدخله القدير) يلفت إنتباهنا كاتب سفر الخروج إلى القضية التي يطرحها هي “الجهل” أو “المعرفة” للرب! بينما بني إسرائيل عادوا يصرخون لإلههم، يجهل فرعون وشعب مثر “إله بني إسرائيل” وبمتابعتنا للضربات العشر نجد أن للرب مشروعه الخلاصي ليس فقط لبني إسرائيل كــإبنه البكر، بل لمصر وشعبها بهدف واضح وهو أن: “تَعلَمُ مِصرُ أَنِّي أَنا الرَّبّ” (7: 5). هذا هو هدف الرَّبّ وهو الكشف عن ذاته ليعرفه ويعبده جميع الشعوب. سيتضح لاحقًا في نبؤة أشعيا: «… في ذلك اليَوم، يَكونُ مَذبَحٌ لِلرَّبِّ في داخِلِ أَرضِ مِصْر ونُصُبٌ بِجانِبِ حُدودِها لِلرَّبّ، فيَكونُ عَلامةً وشَهادةً لِرَبِّ القُوَّاتِ في أَرضِ مِصْر، لِأَنَّهم يَصرُخونَ إِلى الرَّبّ أَمامَ المُضايِقين، فيُرسِلُ لَهم مُخَلِّصاً ومُدافِعاً فيُنقِذُهم. وُيعَرِّفُ الرَّبّ نَفْسَه إِلى مِصْر، فتَعرِفُ مِصرُ الرَّبّ في ذلك اليَوم، وتَعبُدُه بِالذَّبيحَةِ والتَّقدِمَة، ويَنذُرونَ لِلرَّب نُذوراً ويوفونَ بِها» (أش 19: 16- 21). إذن مصر ليست مكروهة من الرَّبّ بل هي في قلب ومخطط الرَّبّ وهذا يعتمد على حرية فرعون مصر وشعبها في إختياره إله الشعوب وخالقها. فمتى عرفته مصر نالت نعم إلهية لا نُحصى.

  1. بين جهل الإنسان ومحاولات الرَّبّ

قد نرى لأول وهلة أن الضربات العشر عقاب لعصيان فرعون للأمر الإلهي. ولكن بقراءة مستمرة للإصحاحات 7- 12 نجد إنها ما هي إلا وسيلة إستخدمها الرَّبّ ليكشف عن ذاته لملك مصر. نعم الرَّبّ حاضر وموجود في قلب مصر قاسية القلب بشعبها وفرعونها. حقيقة سبب تدخل الرَّبّ بمصر وهي أرض غريبة هو: «وأَجعَلُ عَمَلَ فِداءٍ» (18: 19). الفداء أو الخلاص مما يعوق العلاقة بين الإنسان والرَّبّ هو جوهر عمل الرَّبّ. إذن حتى أزمة الضربات هي جزء من المخطط الإلهي، كيف؟

  1. حدود السلطة الفرعونية

كل أشكال الضربات العشر كانت معروفة بالقدم على سبيل المثال: تحويل مياه النيل إلى دم هذا أمر طبيعي فعندما كان يتم فيضان النيل قبل بناء السد العالي كانت مياهه تختلط بالطمي فتصير حمراء اللون كالدم. الثلج له مقاطع كثيرة في النص لانه نادراً ما تمطر السماء تلج بمصر، ولكنها من حين لآخر. الضربة الأخيرة هي موت أبكار الأسر المصرية فالسرد من قبل الكاتب يطول أكثر. السبب هو: «كَذا قالَ الرَّبّ: إِسْرائيلُ هو ابنِيَ البِكْر. قُلتُ لَكَ: أَطلِقِ اَبنِي لِيَعبُدَني، وإِن أَبَيتَ أَن تُطلِقَه فهاءَنذا قاتِلٌ آبنَكَ البِكْر» (4: 22-23). وهذه الأزمة هي وطنية حلت على كل أسر المصريين فقط حتى أبكار الحيوانات (راج خر 12).

بالرغم من أن فرعون هو في الحقيقة، ملك لمصر وللمصريين إلا إنه لا يمكنه أن يقرر فيضان النيل، ليس له أي سلطة على الذباب، زالجراد، والرعد، والدود، … كما إنه ليس له القدرة على شفاء الحيوانات من أي داء يلمس صحة للمصريين. فدوره محدود ولابد من معرفة هذا وإنه ليس له أيضًا السلطة على حرمان الإسرائيليين من الخروج من مصر. وهنا قلب الرسالة اللاهوتية التي تتمحور عليها الرواية الكتابية هي أن “حرية الأشخاص لا تعود للملك”. فالملك ما هو إلا مخلوق من الرَّبّ. فقد سمح الرَّبّ بعشرة ضربات وليس واحدة او اثنين فقط ليُعرف قدرة إله أسرائيلين عند المصريين التي فهموها فقط عند الضربة العاشرة. إذ نجد إن فرعون بعد معاناة يدعى موسى ويطرده مع شعبه من مصر قائلا: «قوما فأخُرجا مِن بَينِ شَعْبي، أَنتُما وبَنو إِسْرائيل، وآذهَبوا وآعبُدوا الرَّبّ، كما قُلتُم. وغَنَمُكم أَيضاً وبَقَرُكم خُذوها كما قُلُتم وآذهَبوا، وباركوني أَيضاً» (خر 12: 31- 32).

  1. الخلاص بموت البكر

نقرأ لدى لوقا أن مريم عندما حانت ساعة ولادتها «فولَدَتِ ابنَها البِكَر، فَقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ» (لو 2: 7). إذن يسوع هو الإبن البكر لمريم على المستوى البشري. وعلى المستوى الإلهي نجد أن بولس يتعمق ليغنينا في موضوع “قيامة بكر القائمين من بين الأموات”. ويصير هذا الموضوع قلب قضاياه الإيمانية وتعاليم رسائله: «إِنَّ المسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات وهو بِكرُ الَّذينَ ماتوا. عَن يَدِ إِنسان أَتى المَوتُ فعَن يَدِ إِنسانٍ أَيضا ً تَكونُ قِيامةُ الأَموات، وكما يَموتُ جَميعُ النَّاسِ في آدم فكذلك سَيُحيَونَ جَميعًا في المسيح، كُلُّ واحِدٍ ورُتْبَتُه. فالبكرُ أَوَّلاً وهو المَسيح، ثُمَّ الَّذينَ يَكونونَ خاصَّةَ المسيحِ عِندَ مَجيئِه» (1كو 15: 20- 23). إستند بولس على موت الأبكار بالعهد القديم ليستنير إيماننا بقيامة البكر في العهد الجديد. فليس كل موت هو نهاية بل مع المسيح هو بداية لحياة أبدية لكل البشرية بما فيهم المصريين لأنهم عرفوا الرَّبّ ويؤمنون به. كما كان العبور من مصر هو عبور من العبودية للحرية، قيامة المسيح هي عبور من الموت الأبدي لحياة دائمة. «فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح» (1كو 5: 7). المسيح بكر مريم، بكر الراقدين صار الحمل البكر الذي لا قيمة للقيامة اليوم بدونه، إذ بالمسيح الحمل البكر تمت قيامتنا. تحمل دعوة لنا اليوم لنقبل دعوة الرسول بولس: «لِيَكونَ هذا بِكْراً» (رو 8: 29) الذي يعمل على تحرير قلوبنا من مشاعر الخوف وعقولنا من أفكار العبودية.

  1. علاقة الحرية بالفصح

أول فعل ليتورجي قام بعمله بني إسرائيل بعد نوالهم الحرية هو إحتفالهم بالفصح في قلب الصحراء. بما إنه شعب حر الآن، إذن يليق له عبادة الحرة للإله المُحرر. في الكتاب المقدس عامة وفي سفر الخروج خاصة موضوع العبادة هي النموذج المثالي لأنه “عمل مجاني” تشمل خدمة الرَّبّ العظيمة هي عبادته بقلب حر. الخروج العظيم من مصر بحسب خروج 14 وهي قراءة مركزية في الإحتفال بليلة الفصح. بعد ثلاثة أيام الرَّبّ يدعو موسى ليأمره ليأخذ طريق آخر. وندم فرعون مصر والسلطات بسبب تركهم العمالة الإسرائيلية لذا خرجوا ورائهم ليعودوا بهم للعمل. وأثناء تحضيرات المصريين، يستمر الإسرائليين في العبور والتحرر. إلا أنه أثناء توقفهم لتحضير المخيمات للراحة إذ يروا هجوم المصريين ويصرخوا من جديد للرب ويخافوا (أول مرة يظهر هذا الفعل خلال العبور) بسبب إحاطتهم بالبحر من ناحية والعدو المصري من الأخرى. نحن كقراء نعلم ماذا يفعل الله من تدخلات عجائبيه أما الشعب لا يعرف. واقعة الخوف، نالت من قلب الشعب، إذ قد تحرر من أرض مصر إلا أن العبودية بداخل قلبه. وهنا معنى مقالتنا اللاهوتي أن نوال الحرية من العبودية لا يكفي بل أيضًا من حرية عقلية تستحوذ على القلب البشري. والخطر هو أن يستمر الإنسان في حياته كـ “عبد خائف”. (14: 10- 12). ثم يقول موسى لهم ولنا اليوم: «لا تَخافوا، اُصمُدوا تُعايِنوا الخَلاصَ الَّذي يُجْريه الرَّبّ اليَومَ فإِنَّكم كَما تَرَونَ المِصرِيِّينَ اليَومَ، لَن تَعودوا تَرَونَهم لِلأَبَد. الرَّبّ يُحارِبُ عنكُم وأَنتُم هادِئون» (14: 13- 14). الخوف هو عدو الثقة والإيمان بالرَّبّ. وهذا ما يُؤكد فيما بعد إذ قالَ المِصرِيُّون: «لِنَهرُبْ مِن وَجهِ إِسْرائيل، لأَنَّ الرَّبّ يُقاتِلُ عنهُمُ المِصرِيِّين» (14: 25). نزعت قيامة البكر في العهد الجديد كل أصل للخطيئة والألم والموت المؤدي للهلاك. إلا أن معايشة القيامة اليوم تحتاج لتعاون الإنسان اليوم:

عندما يتحرر القلب البشري من الخوف يحيا القيامة،

عندما يعبر من عبودية الإستعباد لصور الفرعون ومعرفة الإله الحقيقي يحيا القيامة،

عندما يعبد بحرية باطنية وليس بشكل ليتورجي ظاهري يحيا القيامة،

عندما يصلي طالبًا قمة الألم وقمة الحب على مثال ق. فرنسيس يحيا القيامة،

عندما يشارك البكر الآمه يمكنه أن يشاركه قيامته المجيدة.

من المُدهش أن نتوقف لنتأمل إتمام مخطط الرَّبّ من رواية عبور البحر الأحمر، ونجد أن موت أبكار المصريين ليس نهاية، بل أن إكتمل في موت بكر الله ووجد ذروته في سر القيامة. من خلال قضية موت الأبكار يكشف نفسه للمصريين بشكل خاص فقد نطقوا بإسم إدوناي  أي الرَّبّ. ويتم قول الرَّبّ: «فيَعلَمُ المِصرِيُّونَ أَنَّني أَنا الرَّبّ» (14: 18) فهذا هو الجديد. من اليوم لن نقرأ عن مصر بنظرة سلبية لإستعبادها شعب إسرائيل بها، إلا أن الرَّبّ يتذكر أيضًا مصر بشعبها ويود الإنتماء لها وأن ينالنا كمصريين فدائه الإلهي للتنعم بخلاصه الذي تم بموت وقيامة بكر الراقدين.

الخلاصة

يتهلل مرتل سفر الموامير بالرَّبّ مرنمًا: «ها إِنَّ البَنينَ ميراثٌ مِنَ الرَّبّ وثَمَرَةَ البَطْنِ ثَوابٌ مِنه» (مز 126: 3). إنطلقنا في تأملنا من خلال موت أبكار مصر بالضربة العاشرة في سفر الخروج متأملين عمل الرَّبّ المُحرر الذي إستخدم الضربات كوسيلة ليجذب قلب فرعون والمصريين له ولينال الإسرائيليين الفداء الإلهي وحرية العبادة له مبتدئين بالإحتفال الطقسي لأول مرة بـ “فصح الرَّبّ”. ثم تأملنا أن لا سلطة بشرية، حتى وإن كانت سلطة فرعون ملك مصر، يمكنها أن تعلو على سلطان الرَّبّ وسيادته لخالق البشر والبشرية معًا وهو بقدرته يحررها من كل إستعباد. قدرة الرَّبّ التي “خلقت” العالم هي ذاتها التي “حررت” الاٍسرائليين. وشعب إسرائيل هم “شهود عيان” لأحداث الفداء التي أتمها الرَّبّ لصالحهم. فالقيامة هي العبور لقبول ملء الخلاص. حقيقة إن خلاصنا تم على الصليب بموت وقيامة يسوع. وما علينا إلا أن نجتهد لنحافظ على قبوله وتجديده يوميًا. هلا تصالحنا مع “أخينا الموت الجسدي” بحسب قول فرنسيس، إستعداد لقبول البكر القائم في حياتنا مُسبحين: «إِنَّه فِصحٌ لِلرَّبّ» (خر 12: 11)

Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير