مقدمة
إنتقال مريم إلى السماء هو عقيدة إيمانية إعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية، والتي بموجبها أعلنت عقيدة كنسية إنتقال مريم، أم يسوع، في نهاية حياتها الأرضية، إلى السماء بالنفس والجسد. ومع مرور الأزمنة تطور هذا الإكرام البنويّ الذي أُعلن في التقليد الكنسي منذ القرن الخامس الميلادي. وإنتشر وتجذر في الفكر المسيحي مما دعى إلى إعلان عقيدة مُعتمدة من الكنيسة في نوفمبر 1950 (1 تشرين الثاني) حينما أعلن البابا بيوس الثاني عشر، أثناء فترة حبريته البابوية، وأعلنها كعقيدة بالكنيسة الكاثوليكية من خلال الدستور الرسولي المُسمى بــ Munificentissimus Deus بالصيغة التالية: “مريم العذراء، بعد أن أكملت مجرى حياتها الأرضية […] قدّ تمجدّت سماويًا بالنفس والجسد”. في الكنائس الغربية يستخدم لفظ “انتقال مريم، أما في الكنائس الشرقية يستخدم لفظ Dormitio Virginis– “نيام مريم” هو تعبير يمكن أن يشير في الواقع إلى أحد المعنيين: النوم والموت الطبيعي. لذلك فإن “رقاد مريم” ليس موضوعًا لـلعقيدة في الكنيسة الكاثوليكية بقدر “إنتقال مريم”. في مقالنا هذا سنفسر معنى سر الإنتقال المريمي، ثم تساعدنا النصوص الكتابية بالليتورجية اللاتينية في هذا العيد في فِهْم السّر الّذي نحتفل به، على الرغم من عدم وجود نص كتابي مباشر يشير إلى “سر الإنتقال المريميّ” من الأرض للسماء. يظهر النص الكتابي الـمأخوذ من إنجيل لوقا (لو 1: 39- 56) الذي فيه تُنشُّد وتتغنى به مريم وهو ما نطلق عليه في اللاهوت الكتابي “نشيد التسبيح” أو نشيد التعظيم”. يُتلى هذا النشيد على لسان البتول التي تتغنى بالأعمال العظيمة التي صنعها الرب فيها وفي ماضيها وبحاضرها وما سيتممه من عجائب في مستقبلها. هذا النشيد هو بمثابة “ترنيمة تسبيح” يمكن وضعها على شفاه كلاً منا كمؤمنين بالكنيسة في وقتنا المُعاصر، وكذلك على لسان كل مؤمن يرغب في تسبيح الرب الذي يشعر من خلال غيمانه بقوة هذا الحضور العظيم في عالمنا. وسنستعين لاحقًا، في هذا المقال، بنص من سفرالرؤيا (11: 19- 12: 1) الذي من خلال صورة المرأة الـمُتسربلة بالشمس، وهذه القراءة ستساعدنا على التعمق بقراءة آخروية (اليوم المريمي الأخير) مما يكشف لنا الكثير عن الغموض الذي يحيط بسر إنتقال مريم إلى السماء. كما سنستعين برسالة مار بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (15: 20- 26) التي ستُزودنا بقراءة جديدة من الناحية الكريستولوجية (أي التي تكشف وجه المسيح في علاقته بمريم مريم)، لكشف نفس السر الإلهي الخفي في شخص مريم. سنقدم منظور أخير في كل مرة سنحتفل بهذا العيد كأحد الأعياد التي تَفرح بها الكنيسة بأمومة مريم وهي والدة الإله قبلاً التي وضعت في مركز حياتها مخطط الله: الآب والإبن والروح القدس.
- مريم حلقة وصل
يوجد في الكتاب المقدس شخصيات تأخذ قيمة تتجاوز فرديتها الملموسة، من خلال الناس والأماكن والأحداث التي أصبحت إستحضارًا لعالم واسع جدًا من المعاني وله من القدرة على تلخيص أهم الحقائق المُعقدة لخبرة الإيمان. إحدى هذه الحقائق في العهد القديم هي مدينة أورشليم. فهي ليست مكانًا جغرافيًا فحسب، بل مكانًا رمزيًا يلخص في حد ذاته كل ما يمكن أن يرغب فيه المؤمن اليهودي. هذا ما توصلنا إليه من المزمور: «إِن نَسيتُكِ يا أُورَشليم فلتُشَلَّ يَميني ولْيَلتَصِقْ لِساني بِحَنَكي إِن لم أَذكُرْكِ إِن لم أَرفع أُورَشَليمَ إِلى أَوجِ فَرَحي» (مز 136: 5- 6).
بمقدار مجد أورشليم، بيت الله واليهود، يتم التعبير عن رجاء شعب الله بشكل رمزي حتى يصل إلى رؤيا صراع الفناء حيث تحلّ “أورشليم الجديدة” من السماء كعروس مهيئة ومُزينة لزوجها «ورَأَيتُ المَدينَةَ المُقَدَّسة، أُورَشَليمَ الجَديدة، نازِلَةً مِنَ السَّماءِ مِن عِندِ الله، مُهَيَّأَةً مِثلَ عَروسٍ مُزَيَّنَةٍ لِعَريسِها […] تَعالَ أُرِكَ العَروسَ امرَأَةَ الحَمَل» (رؤ 21: 2. 10). ففي أورشليم السماء المتألقة بمجد الله، يفكر المؤمنون في مصيرهم، ويتجهون نحو أفضل ظروفهم، ويرون الإتمام المثالي لكل وعد إلهي.
بالنسبة للعهد الجديد وللكنيسة، نجد أن مريم تصير بدورها حلقة وصل. فهي هنا كشخصية كتابية تعتبر من هذه الشخصيات التي تتجاوز قيمتها الفردية لتكتسب أهمية أوسع هي مريم، “إبنة صهيون” العذراء. لا تُنكر قيمة فرديتها بالتأكيد، وأهمية المكانة الفريدة التي تحتلها بدورها في تاريخ الخلاص الذي تممّه إبنها، ولكن قيمتها الفردية والشخصية هي التي تتوسع وتصبح واحدة منّا وتتوسع رمزية المكان بامتيازها بمركزية خاصة في الخبرة المسيحية والكنسية، تصبح مريم حلقة وصل بين أورشليم بالعهد القديم وبين الكنيسة بالعهد الجديد.
في علاقة مريم بالله، ترى الكنيسة فيها نموذجها الخاص. فبكونها والدة المخلص، ترى الكنيسة المثل بعلاقتها بالمسيح، في مصير مريم ترى الكنيسة التّرقّب والإعلان عن مصيرها المستقبلي. هذا هو معنى الاحتفال الذي تحتفل به الكنيسة اليوم، المؤسس على تسليم مريم القائلة: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ» (لو 1: 38)، فهي أعلنت بشكل مباشر تسليمها للرب. بذلك صارت كالعروس الّتي رحَّب بها عريسها، وهنا تختبر الكنيسة اللقاء مُعها كعروس متسربلة بالمجد والجمال.
- مريم ونشيد الفقراء (لو 1: 48)
بشكل خاص، في النشيد المريمي بالإنجيل اللوقاوي الموضوع على لسان مريم، تكتشف الكنيسة أنها قادرة على الترنيم والتسبيح وبالتحديد في هذا النشيد (راج لو 1: 46- 56)، وتنكشف هويتها العميقة، بالإضافة إلى كشف الجديد عن هوية مريم الكامنة في علاقتهن بالله، نتيجة وجود مريم، مما يجعلنا ككنيسة نكتشف كل هذا في مريم إمرأة قادرة على التمجيد والتسبيح للرب. وإذا تسألنا عن الجديد بالنشيد الذي تتغنت به كنيسة الله في مريم؟ ما هي مميزات هذه النشيد الذي تتعرف فيه االكنيسة على سر ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟
إن “النشيد المريمي” أي “نشيد التعظيم” هو قبل كل شيء هو “نشيد الفقراء”. «لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة» (لو 1: 48) المجتمع الذي وُلِدَّ فيه هذا النشيد هو مجتمع من الفقراء، وقد يكون المجتمع المسيحي بأورشليم يجد نفسه يعيش في فقر وإضطهاد. إنها ليست مسألة فقر إجتماعي فحسب، بل هي أيضًا مسألة فقر مُضاعف أيضًا. بمعنى لاهوتي أن تكون فقيرًا هو الوسيلة للوقوف أمام الله. بعض الشخصيات ذات مستوى عالٍ لا يمكن أن تسبح بهذا النشيد إلا إذا كانت من أصل فقيرً. ككنيسة فقيرة، فقط الفقيره ستتعرف كيف تقف أمام الله بهذه الطريقة، دون إدعاءات، بدون رياء، بدون دوافع خفية. الفقير هو من يعرف كيف يقف أمام الله مدركًا أنه ليس لديهم اي طالببه سوى كل شيء ليحصل عليه مجانًا: الفقراء هم الوحيدون القادرون على تقديم الشكر، وبالتالي هم الوحيدون القادرون على ترديد نشيد التعظيم.
- لاهوت نشيد التعظيم المريمي (لو 1: 46- 56)
مريم والكنيسة في هذا النشيد لا ينشدن لأنفسهن، لكنهن ينشدن لله. في نشيد مريم والكنيسة يدركن أنهن موضع رحمة الله، فهو الذي فعل كل شيء! من خلال كلمات نشيد التعظيم الواردة لدى لوقا، يجب على الكنيسة (أنا وأنت)، أن تتمثل بمريم، في قامت بتجديد الوعي بأنها أداة في يد الله. اليقين بأنه هو الذي أنزل كل شيء؛ القدرة على عدم تسبيح ذاتها وفضائلها، ولكن إعترافها بأن الله هو المخلص الحقيقي والوحيد. أدعوك للتوقف أمام الصفات أثناء قراءة هذا النشيد ولاحظ: اثنان فقط يشيران لمريم – نفسي، روحي، بينما كل قائمة الصفات الآخرى فهي تعود على الله كموضوع لهم. هذا هو التسبيح التي تدعو بها مريم كنيسة الله لترنيمها!
فلننشد إذن نشيد الكنيسة الواحدة، نشيد الوحدة. ثم تسافر مريم من الجليل إلى اليهودية من مملكة الشمال القديمة إلى مملكة الجنوب. المملكتان اللاتان كانتا على وجه التحديد بسبب إنقسامهما – في التاريخ القديم لشعب الله تشكل الجرح المرئي للهزيمة والكفر. على أمل إسرائيل،ستكون الوحدة الجديدة للشعب علامة على الوفاء بالوعود. الآن يتجلى كل هذا في مريم التي أصبحت المكان الذي تتحقق فيه الوحدة المفقودة وبولادة المسيح تتحقق جميع وعود الله بحسب قول بولس الرسول: «إِنَّ جميعَ مَواعِدِ اللهِ لَها فيه “نَعَم”. لِذلِك بِه أَيضًا نَقولُ لله : “آمين” إِكرامًا لِمَجْدِه» (2كور 1 :20). في الواقع، يسوع هو الذي خلق الوحدة ليس فقط بين شعب الله، بل أيضًا للبشرية جمعاء، مُحطمًا كل جدار الانفصال (راج أف 2: 13-14). في نشيد مريم، لا نجد نشيد الكنيسة الكاثوليكية أو إحدى الكنائس المسيحية، بل نشيد جميع المسيحيين، نشيد إسرائيل الجديدة، نشيد البشرية. نجد في الأسطر السابقة (راج لو 1: 39- 45) وجود شخصيتين خفيتين: يسوع ويوحنا، المسيح الخفي الذي يكشف عن نفسه في زيارة الأم لقريبتها أليصابات؛ والنبي الخفي الذي يكشف عن نفسه قفزًا من الفرح في أحشاء أمه أليصابات. نجد في النبي الخفي صورة جميع طالبي الله في التاريخ. نجد في المسيح المختبئ والمحبوب نقطة الحوار بين الأديان والثقافات توحدها لغة المحبة الواحدة التي هي بالفعل إكتشاف المسيح والإعتراف به. حقًا إن نشيد التعظيم هو ترنيمة الوحدة وهو الترنيمة التي تغنيها كنيسة الله والتي ستُنشد عندما ينضم طريقها إلى طريق من سبقها والذي يظل نبوءة وإعلانًا عن مصيرها.
- وليمة المملكة
احتفالنا بالإفخارستيا في هذا اليوم، هو إستباق لجلوسنا في وليمة الملكوت: مأدبة الفقراء، لأن الذين يعرفون كيف يقبلون كل شيء كهدية يمكنهم الجلوس هناك هلى المأدبة “اللاهوتية”، لأن الله وحده هو الضيف الذي يعطي نفسه وهو بطل تاريخنا البشري. وليمة الوحدة، لأننا بالمشاركة في الخبز المكسور نصبح جسدًا واحدًا.
في هذه المأدبة، التي هي نبوءة وإستباق للملكوت، نعيش تجربة نشيد مريم. في هذه الوليمة التي هي نبوءة وإستباق للملكوت مدعوين لنتذكر ولنروي ماضينا التي تتضح فيه لمسة الله حتى نتمكن من عيش حاضرنا. دعونا نتطلع إلى مستقبلنا ونترنم بنشيد الكنيسة الإلهية الواحدة: لطف إلهنا الرحيم وصلاحه، إخلاصه الذي يضيء على وجه المسيح مثل مريم!
الخلاصة
مريم من خلال سر إنتقالها صارت منارة نتبعها في بشريتنا حتى تتحقق وعود الله فينا كما تحققت فيها قبلاً. مريم أم الله صارت إبنة الإبن وكما احتضنته صغيراً، هكذا إحتضنها في ملكوته الأبدي عند نهاية مسيرتها البشرية. تدعونا مريم اليوم لنقتفي أثرها في سرها وهو تسبيح الرب بقلب الفقير فنستحق بسخاء الرب أن نجلس في وليمة مُلكه الذي لا إنتهاء له. مريم سيدة الإنتقال ترافق مسيرتنا وتحملنا إلى إبنها لنسبحه معها للأبد. عيد مبارك