مقدمة
حينما أراد الرب أن يكشف عن ذاته لعالمنا البشري وُلدَّ فقيرا في أسرة بشرية عادية مع العلم بأنه الإله الذي يملك على الجميع بملكه وملكوته. وهكذا على مثاله هناك الكثيرين من القديسين ومؤسسين الرهبانيات سلكوا مسيرة تبعية جادة وحملتهم على قداستهم وقداسة آخرين ما إنتموا لرهبانياتهم. اليوم سنتوقف أمام شخصية نادرة وهي القديسة كيارا أي “المنيرة” التي نحتفل بها في 11 أغسطس (آب) من كل عام. سنتعرف على صفات الرب في مسيرتها من خلال النقاط التالية: الأوّلى، إتحدت كيارا بالرب فجعلها بصمة له عن “فضيلة الفقر” في عالم الغنى. الثانية، الكتب المقدسة يسوع أتَّمَ العهد القديم في ذاته فنتَّج عهد جديد في العلاقة بالرب وكيارا إتخذت هذه الكتب قانونًا كأول إمرأة تُدّون قانون للحياة الرهبانية الحبيسة. الثالثة، “الحياة التعبدية” طواعية وبحسب إلهام الرب لها وباختيارها الباطني العميق مما جعلها نقطة إنطلاق لكثيرات من شابات عصؤها حتى عصرنا الحالي.
- فقر يسوع (مت 2؛ 27)
«لـمَّا وُلِدَ يسوعُ في بَيتَ لَحمِ اليهودِيَّة، […] “أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟» (مت 2: 1- 2). فمنذ ولادته نعلم أن إلهنا فقير من المكان الذي وُلِدَ فيه بالرغم من ملوكيته الإلهية. وها نحن هذا العام 2021 نحتفل بالسنة المُكرسة للقديس يوسف، حارس أسرة الناصرة الفقيرة وشاهد الفقر الإلهي في سر التجسد. وأيضًا على الصليب بعد الحكم عليه بالموت ظلمًا، تم قتله بين لصين خارج أسوار المدينة «ووَضعوا فَوقَ رَأسِه عِلَّةَ الحُكمِ علَيه كُتِبَ فيها: “هذا يسوعُ مَلِكُ اليَهود”. ثُمَّ صُلِبَ معَهُ لِصَّان، أَحَدُهما عَنِ اليَمينِ والآخَرُ عَنِ الشِّمال» (مت 27: 37- 38). على هذا المثال في القرن الثاني عشر ميلاديًا منح الرب كنيسته كيارا وهي من أسرة نبيلة بأسيزي-أيطاليا، دعوتها الخاصة جعلتها تتخلى لأجل الرب الفقير عن غنى العالم بارادتها وإختارت أن تعيش حياة أكثر فقراً من مستوى اسرتها بهدف أن تتمثل بيسوع الفقير.
اليوم، “الكلاريسيات الفقيرات” هو إسم الرهبنة النسائية الوحيدة التي أسسها مار فرنسيس. من خلال إختيار كيارا وجه يسوع الفقير إتخذت منهاج الفقر نور وغنى لحياتها فصار يسوع هو المصدر الوحيد لغناها بل الميراث الذي تركته للراهبات اللواتي إلتحقن برهبنة الفقيرات حبًا في الإله الفقير الذي تخلى عن كل شئ. يدعونا هؤلاء النساء اليوم لنفكر في حياتنا، حتى وإن لم ننذر الفقر، إلا إنهن يدعوننا للتمثل بهن في فضيلة “الفقر الإنجيلي” وهو مشاركة القريب فيما أعطاه الرب لنا بشكل مجاني ومن فيض نعمته الصالحة. قاد فقر كيارا الماديّ إلى الفقر الروحي فهي لا تحتاج إلا للرب. لذا جعلها الرب “بصمة” عن فقره في عالم يسوده الغنى والتسلط، وهي نموذج لنا في أن نبدأ بالتخلي بارادتنا عن الأشياء. وإلا حين يطرق الموت بابانا سنضطر مجبرين على التخلي عن كل شئ بدون إرادتنا. هدف كيارا هو أن تغتني بالمسيح الفقير «فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه» (2كور 8: 9) إذن هدف هذا الإختيار ليس عبثًا بل هو العلاقة الأكثر عمقً شخص يسوع. وهنا يظهر سخاء نفس كيارا وراهباتها البشريات في كلمة واحدة وهي السخاء مع الرب ومع القريب: «فإِنَّهُم معَ كَثْرَةِ الشَّدائِدِ الَّتي امتُحِنوا بِها، قد فاضَ فَرَحُهمُ العَظيم وفَقْرُهمُ الشَّديد بِكُنوزٍ مِنَ السَّخاء» (2كور 8: 2).
- يسوع مُتمم الكتب المقدسة (يو 6: 63)
أتَّمَ يسوع كتب العهد القديم في ذاته. فقد إستبقت الكتب المقدسة أحداث مسيرته الخلاصية. فنتَّج من هذا الإتمَّام نور ونعمة “العهد الجديد” الذي وجد ذروته في شخص المسيح المصلوب والقائم. بحسب مار يوحنا القائل «إنَّ الرُّوحَ هو الَّذي يُحيي، وأَمَّا الجَسَدُ فلا يُجْدي نَفْعَاً، والكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة» (6: 63). في علاقة الرب الحميمة بكيارا كشف لها أن تتخذ من هذه الكتب المقدسة بعهديها قانونًا للرهبنة الناشئة في بدايات القرن الثالث عشر. وهي كأول إمرأة إستجابت لهذا الإلهام وقامت بتُدّوين قانون للحياة الرهبانية الحبيسة معتمدة كليَّا على كلمة الله كمصدر لحياة الرهبنة الناشئة روحيًا. مما يوحي لنا اليوم أن كيارا يمكنها القول على مثال بولس: «فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم» (1كور 11: 23).فقد سلمت لواريثاتها من الراهبات المستقبليات لؤلؤة المسيحية وهي “كلمة الله” التي تغذي وتعطي روح وحياة. بل من خلال حياة التكريس إلتقت بالكلمة الحية وقررت البقاء والسكنى معه بشكل أبدي في حياة داخلية دون الخروج للرسالة بالعالم فإن جوهر دعوتهن هو الإتحاد بالـ «الكَلِمَةُ [التي] صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ» (يو 1: 14).
- حياة يسوع التعبدية (مر 3: 13- 20)
أفنى يسوع الإبن حياته حبًا في الآب وفينا كبشرية ضعيفة على الصليب مُمَجِداً الآب إياه بقيامته. نعلم أن يسوع عاش حياته الأرضية بين رسالته بين الناس من جانب وبين تواصله مع الآب “على الجبل” من الجانب الآخر فكان يستمد حياة من خلال علاقته بأبيه «فلمَّا صَرَفَهم [الجموع] ذهَبَ إِلى الجَبَلِ ليُصَلِّي» (مر 6: 46). وعلى مثاله وجدت كيارا في حائط الدير المنغلق الجبل الذي تتواصل به مع الله الآب ليس لفترة بل على الدوام فصار مكان التعبد والتكريس هو مكان الحياة الأخوية والرسالة والصلاة، فليس للمكان قيمة بقدر أن تتوثق علاقتها برب الأماكن والأزمنة. وكما وجد يسوع في أوقات لقائه بالآب منبع لعلاقاته بالبشر هكذا كيارا وراهباتها فيما بعد فُزنَّ بطاعة التلميذات اللواتي تبعن كلمة معلمهن القائلة «أَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه» (مت 28: 16) وفي الدير الحبيس إلتقين كيارا وراهباتها بيسوع ومكثن للأبد دون الخروج للعالم. بل إتخذن قرار بتقديم العالم بكل ما فيه للرب كل يوم. إخترن هذه الحياة السجينة شكلا ومتحررة موضوعًا طواعية من كلا منهن وبحسب إلهام الرب لهنَّ وباختيارهن الباطني العميق. صارت كيارا نقطة إنطلاق لكثيرات من شابات عصرها حتى عصرنا الحالي.
الخُلّاصة
في قرائتنا للكشف الإلهي الحالي، تلمسنا الكثير من النقاط التي إشرك الرب فيها كيارا التي إختارها وألهمها بتبعيته. حينما أراد الرب أن يكشف عن ذاته دعى إمرأة نبيلة وهي “كيارا” أي المُنيرة. كانت خطته الإلهية أن يضعها في عالمنا كـ “بصمة” لحضوره الحي وتعبير عن الأمانة الإلهية: إستودع الرب في شخص كيارا رسالة خاصة تربط بين حبه وحب القريب. وبهذا إئتمنها على نوع حياة مُكرسة تتواصل معه من خلال التأمل والصلاة والعمل وعلى مرافقة القريب بالصلاة للعالم من داخل الدير. لذا تَسنِّد صلاة الكلاريسيات كلا منا في عالم هشّ فتصير قوة لمن يعيش دون أن يتذكر الرب وأيضًا نور لمن يعيش في قلب العالم ويحافظ على قلبه ضد تياراته. الكتب المقدسة: نجحت كلارا الأسيزية بمرافقة فرنسيس في أن يُدَّون أول قانون لرهبنة الحبيسات بناء على كلمة الرب وليس على كلمات بشرية. إنفتحت كلارا بقلبها ثم راهباتها على العبادة الإفخارستية التي بصمت وسجود يرفعوا ما تحمله الأرض أمنا لتكون أكثر إنسجامًا ووفاقًا مع مشروع الحب الإلهي. كلارا هي “بصمة الرب في عالمنا البشري” من خلال احتضانها فضيلة الفقر مما جعلها تختار “الفقيرات” كاسم لهن وتركت لراهباتها التمتع بالملكوت الأبدي وهن لازلن على الأرض، والفقر المادي كميراث يدوم. واليوم تدعونا كيارا في التحلي بفضيلة “الفقر” يكفينا ان الرب هو إلهنا فهو الكنز الأبدي ونتشفع بأم الكلاريسيات لنصير بصمات إلهية دون أن ندوّس على القريب ز بصلاة القديسة كيارا تصير أمًا لنا بصلاتها لأجل عالمنا.