إخوتي الأعزّاء!
يسعدني أن ألتقي بكم. أشكركم على كلماتكم، وإنّها وحضورَكم معًا تعبّر عن رغبتكم الكبيرة في الوَحدة. إنّها تَروِي مسيرة، كانت في بعض الأحيان شاقّة، في ماضٍ صعب، لكنّكم واجهتموها بشجاعة وإرادة حسنة، وساندتم بعضكم بعضًا تحت أنظار العليّ، الذي يبارك الإخوة الذين يسكنون معًا (راجع مزمور 133، 1).
أراكم أيّها الإخوة في الإيمان بالمسيح، وأُبارك طريق الشَّركة الذي تسلكونه. لقد تأثرت بكلمات الأخ من أتباع مذهب كالفين، شكرًا لك. أتوجّه بفكري إلى دير بانّونهالما (Pannonhalma)، المركز الروحيّ النّابض لهذا البلد، حيث التقيتم قبل ثلاثة أشهر للتّفكير والصّلاة معًا. أن نصلّي معًا، بعضنا من أجل بعض، وأن نعمل معًا في المحبّة، بعضنا مع بعض، من أجل هذا العالم الذي يحبّه الله كثيرًا (راجع يوحنّا 3، 16): هذا هو الطّريق العملي نحو الوَحدة الكاملة.
أراكم إخوةً في إيمان أبينا إبراهيم، وشكرًا لك على هذه الكلمات العميقة التي أثرّت في قلبي. وأقدّر كثيرًا الالتزام الذي أبديتموه في هدم جدران الماضي الفاصلة. يهودًا ومسيحيّين، تريدون أن تَرَوا في الآخر لا إنسانًا غريبًا، بل صديقًا، لا خصمًا، بل أخًا. هذا هو التغيير في النّظرة الذي يباركه الله، والتّوبة التي تفتح البدايات الجديدة، والتّطهير الذي يجدّد الحياة. أعياد رأس السّنة ويوم الغفران، التي تقع على وجه التحديد في هذه الفترة، وفي مناسبتها أقدّم لكم أفضل التمنّيات، هي مناسبات مُباركَة لتجديد التزامكم بهذه النداءات الروحيّة. يفتح إلهُ الآباء دائمًا طرقًا جديدة: كما حوّل الصحراء إلى طريق نحو أرض الميعاد، هكذا يرغب في أن يأخذنا من صحراء الحقد واللامبالاة القاحلة إلى وطن الشَّركة الذي نتوق إليه.
ليس صدفة أنّ المدعوّين في الكتاب المقدّس لاتّباع الرّبّ بصورة خاصّة يجب عليهم دائمًا أن يخرجوا، وأن يسيروا، وأن يصلوا إلى أراضٍ غيرِ مكتشفة وأماكن مجهولة. لنفكّر في إبراهيم الذي ترك البيت والأهل والوطن. مَن يتبع الله فهو مدعوٌّ إلى أن يترك. يُطلَب منّا أن نترك سوء فهم الماضي، والادّعاءات بأنّنا على صواب، وتخطيء الآخرين، لكي نسير نحو وعده بالسّلام، لأنّ الله لديه دائمًا خِطَطٌ للسّلام، وليس للبلوى (راجع إرميا 29، 11).
أودّ أن أستعيد معكم الصّورة الشهيرة لجسر السّلاسل، الذي يربط بين جزئي هذه المدينة: إنّه لا يدمجهما معًا، ولكنّه يوحِّدهما معًا. هكذا يجب أن تكون الرّوابط بيننا. في كلّ مرّة كان هناك تجربة لامتصاص الآخر، لم يكن بناء، بل دمار. كذلك، لما أردنا عزل الآخر في الجيتوهات، بدل قبوله. كم مرّة حدث هذا في التاريخ! يجب أن ننتبه ويجب أن نصلّي حتّى لا يحدث ذلك مرّة أُخرى. وأن نلتزم معًا في التّشجيع على التربية على الأخوّة، حتّى لا تسود نوبات الكراهية التي تريد تدميرها. أفكّر في خطر اللاساميّة، الذي لا يزال كامنًا في أوروبّا وفي أماكن أخرى. إنّه فتيلٌ يجب إطفاؤه. ولكن أفضل طريقة لنزع الفتيل هي العمل معًا بشكل إيجابيّ، وتعزيز الأخوة. مازال الجسر يعلّمنا: إنّه مدعوم بسلاسل كبيرة، مكوّنة من حلقات عديدة. نحن الحلقات، وكلّ حلقة هي أساسيّة، لذلك لا نستطيع بعد أن نعيش في الشّكّ وفي الجهل، بعيدين ومتخاصمين.
يجمع الجسر الجزأين معًا. وبهذا المعنى، فإنّه يذكّر بالمفهوم الأساسيّ للعهد في الكتاب المقدّس. يطلب منّا إله العهد عدم الاستسلام لمنطق العزلة والمصالح الخاصّة. إنّه لا يريد أن يقيم عهودًا مع البعض، على حساب الآخرين، بل مع أشخاصٍ وجماعات تكون جسورًا للشّركة مع الجميع. في هذا البلد، أنتم الذين تمثّلون ديانات الأغلبيّة، عليكم واجب توفير الظّروف اللازمة حتى يتّم احترام الحريّة الدينيّة وتعزيزها للجميع. ولكم أيضًا دور المثال تجاه الجميع: فلا يستطيع أحد أن يقول إنّ الكلام الذي يفرق بين الناس يأتي من شفاه رجال الله، بل (ليكن كلامكم) فقط رسائل انفتاح وسلام. هذه أفضل شهادة يجب أن يقدّمها من نال نعمة معرفة إله العهد والسّلام، في عالم تمزّقه النزاعات الكثيرة.
جسر السّلاسل، بالإضافة إلى شهرته، هو أيضًا الأقدم في هذه المدينة. لقد عبرت من فوقه أجيال عديدة. فهو يدعونا إلى أن نتذكّر الماضي. سنجد فيه المعاناة، والظّلام، وسوء الفهم والاضطهاد، ولكن، إذا عُدنا إلى الجذور، سنكتشف تراثًا روحيًّا مشتركًا أكبر بكثير. هذا هو الكنز الذي يسمح لنا معًا ببناء مستقبل مختلف. أفكّر أيضًا بتأثّر في العديد من الشخصيّات أصدقاء الله الذين شَعّوا نور الله في ليالي العالم المظلمة. أذكر من بين العديدين، شاعرًا كبيرًا من هذا البلد، ميكلوس رادنوتي، الذي تحطّمت مسيرته المهنيّة الرّائعة بسبب الكراهية العمياء من الذين، لمجرّد أنّه من أصل يهوديّ، منعوه أوّلاً من التّدريس ثمّ أبعدوه عن عائلته.
وبينما كان مُحتجزًا في معسكر الاعتقال، في الهاوية الأكثر ظلامًا وفسادًا في الإنسانيّة، استمرّ في كتابة الشّعر حتّى وفاته. كتابه ”Taccuino di Bor “ هو المجموعة الشعريّة الوحيدة التي نجت من المحرقة: فهي تشهد على قوّة الإيمان بدفء الحبّ في جليد المُعتقل وإنارة ظلام الكراهية بنور الإيمان. الكاتب، الذي خنقته السّلاسل التي قيّدت روحه، وجد في حرية أسمى الشّجاعة للكتابة: “أنا سجين وما زلت أقيس (أي متمسك ب) كلّ أمل” (Taccuino di Bor، رسالة إلى زوجته). وطرح سؤالاً يتردّد صداه على مسامعنا حتى اليوم: “وأنت كيف تعيش؟ هل تجد صدى لصوتك في هذا الزمن؟” (Taccuino di Bor، الجزء الأوّل). لا يمكن لأصواتنا، إخوتي الأعزّاء، إلّا أن تُرَدِّد صدى تلك الكلمة التي أعطتنا إيّاها السماء، صدى الرّجاء والسّلام. وحتّى لو لم يُصغِ أحد إلينا أو أُسيءَ فهمُنا، لا ننكِرْ نحن، بأعمالنا، الوحيَ الذي نحن شهودٌ له.
أخيرًا، في العزلة الموحشة في معسكر الاعتقال، وبينما كان يدرك أنّ الحياة كانت تنساب شيئًا فشيئًا، كتب رادنوتي: “أنا أيَضًا الآن جِذر… كنت زهرة، وصرت جِذرًا” (Taccuino di Bor، الجذر). نحن أيضًا مدعوّون إلى أن نصير جذورًا. نبحث غالبًا عن الثّمار والنّتائج وتثبيت أنفسنا. ولكن الله الذي يجعل كلمته تثمر على الأرض، وبعذوبة المطر نفسها ينبت الزرع في الحقل (راجع أشعيا 55، 10)، يذكّرنا أنّ طرق إيماننا هي بذور: بذور تتحوّل إلى جذور تحت الأرض، الجذور التي تغذّي الذاكرة وتنبت المستقبل. هذا ما يطلبه منّا إله آبائنا، لأنّه – كما كتب شاعر آخر – “الله ينتظر في مكان آخر، إنّه ينتظر بالتّحديد في عمق كلّ شيء. في الأسفل، حيث تكون الجذور” (رانير ماريّا ريلكه، فلاديمير، رسّام الغيوم). يمكننا أن نصل إلى القمّة فقط إذا كنّا متجذّرين في العمق. إن كنا متجذّرين في الإصغاء إلى العليّ وإلى الآخرين، سنساعد معاصرينا على قبول ومحبّة بعضهم بعضًا. فقط إن كنّا جذور سلام وبراعم وَحدة، ستكون لنا مصداقية في أعين العالم، الذي ينظر إلينا، وفيه شوقٌ كبير لأن يزهر الرّجاء. شكرًا، وأتمنّى لكم مسيرة سعيدة معًا، شكرًا! أعذروني إن تكلمت معكم جالسًا، فأنا لا أبلغ من العمر 15 عامًا. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana