أعلن القدّيس بولس: “فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب […]، قُدرَةُ اللهِ وحِكمَةُ الله”. مِن ناحية أخرى، لا يُخفي الرّسول أنّ الصّليب، في نظر الحكمة البشريّة، يمثّل شيئًا مختلفًا تمامًا: إنّه “عِثار”، “حَماقة” (1 قورنتس 1، 23-24). كان الصّليب أداةً للموت، ومع ذلك جاءت الحياة منه. كان شيئًا لا يرغب أحد في النّظر إليه، ومع ذلك أظهر لنا جمال محبّة الله. ولهذا يكرّمه شعب الله المقدّس وتحتفل به الّليتورجيا في عيد اليوم. يأخذنا إنجيل القدّيس يوحنّا بيدنا ويساعدنا على الدّخول في هذا السّرّ. في الواقع، كان الإنجيليّ هناك بالتحديد، عند الصّليب. كان يتأمّل يسوع، ميتًا، معلّقًا على الخشبة، فكتب: “والَّذي رأَى شَهِد” (يوحنّا 19، 35). رأى القدّيس يوحنّا وشهد.
قبل كلّ شيء، توجد الرّؤية. ولكن ماذا رأى يوحنّا تحت الصّليب؟ من المؤكّد أنّه رأى ما رآه الآخرون: يسوع، البارّ والصّالح، مات بوحشيّة بين مُجرِمَينِ اثنين. إنّها إحدى المظالم العديدة، وإحدى التضحيات الدمويّة العديدة التي لا تغيّر التاريخ، والدليل الألف أنّ مسار الأحداث في العالم لا يتغيّر: الصالحون يتمّ التخلّص منهم، وينتصر الأشرار ويزدهرون. الصّليب في نظر العالم إخفاق.
ونحن أيضًا قد نخاطر ونقف عند هذه النّظرة الأولى السطحيّة، فلا نقبل منطق الصّليب، ولا نقبل أن يخلّصنا الله بأن يترك شرّ العالم يثور عليه. لا نقبل إلّا بالكلام، الإله الضّعيف والمصلوب، ونحلم بإله قويّ ومُنتصر. إنّها تجربة كبيرة. كم مرّة نطمح إلى مسيحيّة صنعها منتصورن، وإلى مسيحيّة مُظفَّرة لها شأن وأهميّة، وتَلقَى المجد والتكريم. لكن، المسيحيّة من دون الصّليب هي دنيويّة وعقيمة.
رأى القدّيس يوحنّا، بدل ذلك، في الصّليب عمل الله. لقد أدرك مجد الله في المسيح المصلوب. ورأى أنّه، على الرّغم من المظاهر، هو ليس خاسرًا، بل هو الله الذي يقدّم نفسه طواعيّة من أجل كلّ إنسان. لماذا فعل ذلك؟ كان بإمكانه أن يحفظ حياته، وكان بإمكانه أن يبقى بعيدًا عن تاريخنا المليء بالشقاء والعنف. خلافًا لذلك، أراد أن يدخل فيه، وأن يُغمَر فيه. لهذا اختار الطّريق الأصعب: الصّليب. لأنّه يجب ألّا يكون أيّ شخص على الأرض مهما كان يأسه لا يقدر أن يلقاه، حتّى هناك، في الضّيق، وفي الظّلام، وفي الخذلان، وفي معثرة شقائه وأخطائه. هناك بالتّحديد، حيث نعتقد أنّ الله لا يمكن أن يكون، الله حضر، ليُخلِّص كلّ شخص يائس، أراد أن يمسّ اليأس، وليجعل أشدَّ إحباطنا مرارة إحباطًا عرفه هو، صرخ على الصّليب: “إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتَني؟” (متّى 27، 46؛ مزمور 22، 1). إنّها صرخة تخلِّص. تُخلِّص لأنّ الله جعل تخلِّيَ الجميع عنَّا تخلِّيًا عنه. ونحن الآن، معه، لسنا بعد وحدنا، أبدًا.
كيف يمكننا أن نتعلّم أن نرى المجد في الصّليب؟ علّم بعض القدّيسين أنّ الصّليب يشبه كتابًا، ولكي نعرفه، يجب علينا أن نفتحه ونقرأه. لا يكفي شراء كتاب وإلقاء نظرة عليه وعرضه في البيت. ينطبق الشيء نفسه على الصّليب: إنّه مرسوم أو منقوش في كلّ ركن من كنائسنا. هناك عدد لا يُحصى من الصّلبان: حول العُنق، وفي البيت، وفي السيّارة، وفي الجَّيب. ولكن لا حاجة إلى كلّ ذلك، إذا لم نتوقّف وننظر إلى الصّليب، وإذا لم نفتح له قلوبنا، وإذا لم نندهش من جروحه المفتوحة من أجلنا، وإذا لم ينتفخ القلب بالعاطفة وإذا لم نبكِ أمام الله الذي جُرِح بسبب حبّه لنا. إن لم نفعل ذلك، سيظلّ الصّليب كتابًا غير مقروء، وعنوانه ومؤلّفه معروفان جيّدًا، لكنّهما لا يؤثّران في الحياة. لا نقلِّل من معنى الصّليب فنجعله موضوعًا تقويًّا، ولا نجعلْه خصوصًا، أدنى من ذلك، رمزًا سياسيًّا، أو علامة له أهميّته الدينيّة والاجتماعيّة.
ومن التأمّل في الصّليب تأتي الخطوة الثّانية: وهي الشّهادة. إذا حدَّقنا بنظرنا في يسوع، يبدأ وجهه بالانعكاس على وجهنا: تصبح ملامحه ملامحنا، ومحبّة المسيح تستولي علينا وتغيّرنا. أفكّر في الشّهداء الذين شهدوا لمحبّة المسيح في هذه الأمّة في أوقات صعبة للغاية، عندما أوصانا الجميع بالسّكوت، والاختباء، وعدم الاعتراف بالإيمان. أمّا هم فلم يستطيعوا، لم يستطيعوا إلّا أن يشهدوا. كم من الأشخاص كانوا أسخياء فعانوا وماتوا هنا في سلوفاكيا من أجل اسم يسوع! إنّها شهادة تحقّقت من أجل محبّة الذي طالما تأمّلوا فيه. لدرجة التشبّه به، حتّى في الموت.
لكنّني أفكّر أيضًا في وقتنا هذا، حيث لا تنقص فيه فرص الشّهادة. هنا، والشّكر لله، لا يوجد من يضطّهد المسيحيّين كما في أماكن أخرى كثيرة من العالم. ولكن يمكن أن تَبطُل الشّهادة بروح الدنيويّة والفتور. بينما يتطلّب الصّليب شهادة صريحة. لأنّ الصّليب لا يريد أن يكون علمًا يُرفع عاليًا، بل مصدرًا نقيًّا لطريقة جديدة للعيش. وأيّ طريقة؟ الطريقة التي في الإنجيل، وفي التطويبات. الشّاهد الذي يحمل الصّليب في قلبه وليس فقط حول عنقه، لا يرى في أحد عدوًّا، بل يرى الجميع إخوةً وأخواتٍ بذل يسوع حياته من أجلهم. لا يتذكّر شاهد الصّليب أخطاء الماضي ولا يتذمّر من الحاضر. ولا يستخدم شاهد الصّليب طُرُق الخداع والقوّة الدنيويّة: فهو لا يريد أن يفرض نفسه وخاصّته، بل أن يبذل حياته من أجل الآخرين. لا يبحث عن منافعه الخاصّة حتّى يُظهر نفسه فيما بعد على أنّه وَرِع: هذا يُعتبر دين الازدواجيّة، وليس شهادة لله المصلوب. يتبع شاهد الصّليب استراتيجيّة واحدة فقط، وهي استراتيجيّة المعلّم: المحبّة المتواضعة. لا ينتظر انتصارات هنا على الأرض، لأنّه يعلم أنّ محبّة المسيح تثمر في الحياة اليوميّة وتجعل كلّ الأشياء جديدة من الدّاخل، مثل البذرة التي تسقط على الأرض، فتموت وتعطي ثمارًا.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد رأيتم شهودًا. احتفظوا بالذّكرى العزيزة للأشخاص الذين أرضعوكم وربّوكم على الإيمان. إنّهم أشخاص متواضعون وبسطاء، وقد ضحّوا بحياتهم بمحبّة حتّى النّهاية. إنّهم أبطالنا، أبطال الحياة اليوميّة، وحياتهم هي التي ستغيّر التاريخ. يَلِدُ الشّهود شهودًا آخرين، لأنّهم يمنحون الحياة. هكذا ينتشر الإيمان: ليس بقوّة العالم، بل بحكمة الصّليب، ليس بالأبنية، بل بالشّهادة. واليوم، يسألنا الرّبّ يسوع، يسألك أنت أيضًا، أنت، أنت، ويسألني أنا بصمت الصّليب المدَوِّي: “هل تريد أن تكون لي شاهدًا؟”.
وكانت والدة الله القدّيسة مع يوحنّا على الجُلْجُثة. لم يرَ أحدٌ كِتاب الصّليب مفتوحًا مثلها، ولم يشهد أحدٌ له مثلُها من خلال المحبّة المتواضعة. لنطلب بشفاعتها النعمة لنحوِّل نظر القلب إلى الصّليب. عندئذٍ يزهر إيماننا مِلءَه، وتنضج ثمار شهادتنا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana