في هيكل أورشليم، تمتدّ ذراعا مريم، نحو ذراعَيْ سمعان الشّيخ، الذي استطاع أن يستقبل يسوع ويعرف أنّه المسيح المُرسَل لخلاص إسرائيل. لنتأمّل في هذا المشهد من هي مريم: إنّها الأمّ التي أعطتنا يسوع الابن، ولهذا نحبّها ونكرّمها. وإلى مزار شاشتين الوطني هذا، يتدفّق الشّعب السلوفاكي بإيمان وتقوى، لأنّه يعرف أنّها هي التي أعطتنا يسوع. يوجد في “شعار” هذه الزّيارة الرسوليّة طريق مرسوم في قلب يعلوه الصّليب: مريم هي الطّريق الذي يقودنا إلى قلب المسيح، الذي بذل حياته حبًّا لنا.
وعلى ضوء الإنجيل الذي سمعناه، يمكننا أن نرى مريم نموذجًا للإيمان. ونرى ثلاث مِيزاتٍ لإيمانها: المسيرة، والنبوءة، والرّحمة.
إيمان مريم، قبل كلّ شيء، هو إيمان ينطلق في مسيرة. حالما تلقّت ابنة النّاصرة إعلان الملاك، “مَضَت مُسرِعَةً إِلى الجَبَل” (لوقا 1، 39) لتزور وتساعد أليصابات، قريبتها. لم تَعتَبِر دعوتها لتصبح والدة المخلّص امتيازًا، ولم تَفقِد فرح تواضعها البسيط باستقبالها زيارة الملاك، ولم تقف متأمّلة في نفسها داخل جدران بيتها الأربعة. على العكس، لقد عاشت تلك العطيّة التي تلقّتها على أنّها رسالة يجب تحقيقها. وشعرت بالحاجة إلى فتح الباب ومغادرة البيت، وجسّدت وأحيت لهفة الله التي بها يريد أن يصل إلى كلّ البشر ليخلّصهم بمحبّته. لهذا انطلقت مريم في مسيرتها: فضّلت مجهولات الرّحلة على راحة العادات، وتعب الطّريق على الاستقرار في البيت، ومغامرة إيمان يوضع على المحكّ على تديّن مطمئن آمِن، وجعلت نفسها عطيّة حبّ للآخر.
يُرينا إنجيل اليوم أيضًا مريم وهي في حالة مسيرة: سارت نحو أورشليم، حيث قدّمت، مع يوسف زوجها، يسوع إلى الهيكل. وستكون حياتها كلّها مسيرة وراء ابنها، مثل التّلميذة الأولى، حتّى الجلجلة، عند أقدام الصّليب. مريم تسير دائمًا.
وهكذا، فإنّ العذراء هي نموذج إيمان هذا الشّعب السلوفاكي: إيمان ينطلق في مسيرة، تنعشه دائمًا تقوى بسيطة وصادقة، وهو في حجٍّ دائمٍ بحثًا عن الله. وعندما تسيرون، أنتم تتغلّبون على تجربة الإيمان المتجمّد، الذي يرضى ببعض الطّقوس أو التّقاليد القديمة، وبدلًا من ذلك، أنتم تخرجون من أنفسكم، وتحملون أفراحكم وأحزانكم في حقيبة على ظهركم، وتجعلون من الحياة حجّ حبّ نحو الله والإخوة. شكرًا على هذه الشهادة! ورجاءً، واصلوا المسيرة دائمًا. لا تتوقفوا! وأودّ أيضًا أن أضيف أمرًا واحدًا. لقد قلت: ”لا تتوقفوا“. عندما تتوقف الكنيسة تصاب بالمرض. وعندما يتوقف الأساقفة يصيبون الكنيسة بالمرض. وعندما يتوقف الكهنة يصيبون شعب الله بالمرض.
إيمان مريم هو أيضًا إيمان نبويّ. ابنة النّاصرة الشابّة، بحياتها نفسها، كانت نبوءة لعمل الله في التّاريخ، وعمله الرّحيم الذي قَلَبَ منطق العالم، فرفع الوضعاء وحطّ المتكبّرين (راجع لوقا 1، 52). هي تمثّل جميع “فقراء يهوه”، الذين يصرخون إلى الله وينتظرون مجيء المسيح، ومريم هي بنت صهيون التي بشَّر بها أنبياء إسرائيل (راجع صفنيا 3، 14-18)، هي العذراء التي ستحمل “الله معنا”، عِمَّانوئيل (أشعيا 7، 14). مريم، العذراءَ الطاهرة، هي أيقونة دعوتنا: مثلها، نحن مدعوّون لأن نكون قدّيسين وطاهرين في المحبّة (راجع أفسس 1، 4)، لنصير صورة المسيح.
بلغت نبوءة إسرائيل ذروتها في مريم، لأنّها حملت في أحشائها كلمة الله المتجسّد، يسوع. وهو تمّم خطة الله بشكل كامل ونهائيّ. وعنه قال سمعان لأمّه: “إِنَّه جُعِلَ لِسقوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل، وآيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْض” (لوقا 2، 34).
لا ننسَ هذا: لا يمكنّنا أن نعتبر الإيمان قطعة سكّر تحلّي الحياة. لا يمكنّنا ذلك. يسوع هو آية للمعارضة. جاء لينير حيث توجد الظّلمة، أخرج الظلمة إلى العلن وأجبرها على الاستسلام. لهذا تصارعه الظّلمة دائمًا. من قَبِلَ المسيح وفتح نفسه له قام معه، ومن رفضه أغلق على نفسه في الظّلام وأفسدها. قال يسوع لتلاميذه إنّه لم يأت ليحمل سلامًا بل سيفًا (راجع متّى 10، 34): في الواقع، تدخل كلمته، مثل سيفٍ ذي حدّين، في حياتنا وتفصل النّور عن الظّلمة، وتطلب منّا أن نختار. تقول: ”اِخْتَرْ“. أمام يسوع لا يمكننا أن نبقى فاترين، مستريحين “قدمانا في حذائنا”. لا، لا يمكنّنا ذلك. أن أقبله يعني أن أقبل أن يكشف تناقضاتي، وأصنامي، وأفكار الشرّ فيَّ، وهو يصير لي قيامة، هو الذي يُقيمُني دائمًا، ويأخذني بيدي ويجعلني أبدأ من جديد. هو يُقيمُني دائمًا.
اليوم سلوفاكيا بحاجة أيضًا بالتّحديد إلى هؤلاء الأنبياء. أنتم الأساقفة: الأنبياء الذين يسلكون هذا الطريق. ليس الأمر أن نكون مُعادين للعالم، بل أن نكون “آية للمعارضة” في العالم. مسيحيون يعرفون كيف يُظهرون جمال الإنجيل بحياتهم، وأنّهم صانعوا حِوَار حيث تتصلّب المواقف، ويُثبّتون الحياة الأخويّة حيث يكون غالبًا انقسامٌ وعدائيّة في المجتمع، وينشرون رائحة الضّيافة والتّضامن الطيّبة حيث تسود غالبًا الأنانيّة الشخصيّة والأنانيّة الجماعيّة، ويحمون ويحرسون الحياة حيث يسود منطق الموت.
مريم، أمّ المسيرة، تنطلق في المسيرة، مريم والدة النّبوءة. أخيرًا، مريم هي أمّ الرّحمة. إيمانها رحيم. وهي التي عرّفت نفسها بأنّها “أَمَةُ الرَّبّ” (راجع لوقا 1، 38) والتي حرصت، بعناية أموميّة، على ألّا يَنقُص الخمر في عرس قانا الجليل (راجع يوحنّا 2، 1-12)، وشاركت الابن في رسالة الخلاص، حتّى أقدام الصّليب. في تلك الّلحظة، وفي الألّم الموجع الذي عاشته على الجلجلة، فهمت مريم نبوءة سمعان: “وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ” (لوقا 2، 35). لقد طعنتها أيضًا معاناة الابن المُحتَضَر، الذي حمل خطايا البشريّة وآلامها. يسوع ممزّق في الجسد، رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلم (أشعيا 53، 3)، ومريم ممزّقة في نفسها، الأمّ الحنونة التي تجمع دموعنا وفي الوقت نفسه تعزّينا، وتبيّن لنا النّصر النّهائي في المسيح.
وتبقى مريم الحزينة، ببساطة، تحت الصّليب. تظلّ تحت الصّليب، لا تهرب، ولا تحاول إنقاذ نفسها، ولا تستخدم الحيل البشريّة والمهدّئات الروحيّة للهروب من الألم. هذا هو دليل الرّحمة: البقاء تحت الصّليب. البقاء مع وجهٍ تحفره الدّموع، ولكن بإيمان من يعرف أنّ الله يحوّل الألم في ابنه ويتغلّب على الموت.
ونحن أيضًا، عندما ننظر إلى العذراء الأمّ الحزينة، ننفتحُ على إيمانٍ يصبح رحيمًا، ويصبح مشاركة في الحياة مع الجرحى والمتألّمين والمضطرّين إلى حمل صلبانٍ ثقيلة على أكتافهم. إنّه إيمان لا يبقى مجرّدًا، بل يُدخِلُنَا في الجسد ويجعلنا متضامنين مع المحتاجين. هذا الإيمان، على طريقة الله، بتواضع ومن دون صَخَب، يرفع آلام العالم ويَروِي أخاديد التّاريخ بالخلاص.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ليحفظ الله لكم دائمًا الاندهاش والشكر أمام عطيّة الإيمان! ولتَنَلْ لكم مريم الكليّة القداسة النعمة ليبقى إيمانكم دائمًا في مسيرة مستمرّة، وأن يكون فيه نَفَسُ النّبوءة ويكون غنيًّا بالرّحمة.
***********
إلى بودابست في مناسبة القداس الختامي للمؤتمر الإفخارستي الدولي الثاني والخمسين وإلى سلوفاكيا
تحيّة قداسة البابا فرنسيس
في ختام القدّاس الإلهيّ
في ساحة المزار الوطني للطّوباويّة العذراء مريم سيّدة الأحزان السّبعة في شاشتين
الأربعاء 15 أيلول/سبتمبر 2021
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
لقد حان الوقت لأن أغادر بلدكم. شكرت الله في هذه الإفخارستيّا لأنّه منحني أن أكون اليوم معكم، وأن أختتم حجّي بعناق تقوي لشعبكم، والاحتفال معكم بالعيد الدينيّ والوطنيّ الكبير للشفيعة، العذراء الحزينة.
أشكركم من كلّ قلبي، إخوتي الأساقفة، على كلّ التحضيرات والاستقبال. أجدّد شكري إلى السيّدة رئيسة الجمهوريّة وإلى السّلطات المدنيّة. وأنا شاكرٌ لكلّ الذين تعاونوا بطرق مختلفة، وخاصّة بصلواتهم.
أحملكم في قلبي. Ďakujem všetkým! [شكرًا لكم جميعًا!]
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana