Visite à Pietrelcina, l'orme des stigmates © Vatican Media

جراحات يسوع وجراحات فرنسيس

قراءة كتابية-روحية حول الجراحات الشافية

Share this Entry

مقدمة

نحتفل في يوم 17 سبتمبر من كل عام بعيد فرنسيسكاني “عيد جراحات القديس فرنسيس” يحمل سمّات كتابيّة بل خلاصيّة أيضًا. جراجات يسوع الخمس هي بمثابة جوهر إيماننا المسيحي التي تشير لسر يسوع الفصحي. يرتبط هذا العيد بجوهر رسالة يسوع الذي بحسب أناشيد عبد أدوناي في سفر اشعيا بالإصحاحات ٤٠- ٥٥ الخصبة يشيروا إلى رسالة العبد في العهد الجديد من خلال تعبير «بجُرحِه شُفينا» (اش 53: 5). لقد أتمّ يسوع بجراحه المقدسة نبؤات العهد القديم. على هذا المنوال نجد أن صلاة مار فرنسيس، الذي كان يكرر في إعترافه بسيادة الرب “أنت السيد وأنا العبد” دليل على حبه للرب المصلوب والقائم. ونتيجة هذا الحب بين السيد والعبد أنّ الرب كللّ تقدمة حب قلب فرنسيس إذ طبع جراحه المقدسة في جسده البشري علامة على تبادل الرب حبه لمار فرنسيس. وبذلك ترك الرب بصمته الالهية في جسد فقير أسيزي وكشف لنا أنَّ مَن يتألم لأجل الرب ينال أيضًا مجده: «لأَنَّنا إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا» (روم 8: 17). سنتوقف في مقالنا هذا، من خلال المنطلق الكتابي، على تعبير “جراحات إلهية في جسد بشري”، للبحث عن السر الإلهي الفرنسيسكاني على الجلجثة بين يسوع وفرنسيس كمكان لتجسد قمة الالم والحب معًا.

  1. جراحات إلهية في جسد بشري؟

“الآلام” أو “الجراحات” هو لفظ يتكرر كثيراً في الكتاب المقدس وفي حياتنا البشرية. وكثيرا ما نقلق ونشعر بالألم قبل أن نجتازه. ولقد عانى يسوع الإنسان هذا الألم صارخا لأبيه «يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!» (مت 27: 39). وجد يسوع في علاقته الحميّمة بالله الاب المجال ليطلب النجدة واضعًا ذاته في وقت الألم البشري بين يدي أبيه. ومن هنا فتح أمامنا علاقة بنوة جديدة، ففي وقت الألم هناك قلب الله الآب ينتظرنا ليحتضن جراحاتنا والآمنا ونحن نعبر هذا الألم علينا الثقة بأننا لسنا بمفردنا.

نعلم أن تجربة الجراحات التي نالّها مار فرنسيس فريدة وخارقة للعادة. فهي في الواقع، تفتح المجال في عصرنا الحالي لكل منا لنسمح لذاوتنا بأن ننغمس في حب إلهي فريد وهو حب شخص يسوع الجريح، حتى نُصبح إنعكاسًا حيًا للرب. وفرنسيس، على مثال معلمه، أراد أن يعكس بتكريسه للرب في علاقة صامتة حميمة بالله الآب في وقت الصلاة ولكن فاجئه الرب بفعله فطبع جروحاته في جسده البشري كعلامة حب إلهي.

يوم 17 سبتمبر، نحتفل بذكرى جراحات القديس فرنسيس أو بالأحرى جمعة الآلام الفرنسيسكانية. القديس فرنسيس هو أول مسيحي في تاريخ الكنيسة تمّ تمييزه ببصمات الآم الرب على جسده بجبل لافرنا الذي هو بمثابة الجلجثة. وهذه الجراحات إستمرت معه حتى عبوره الأبدي في مساء 3 أكتوبر 1226 بكنيسة سيدة الملائكة. وهكذا، فقد أراد فرنسيس أن يجعل نفسه مشابهًا للمسيح في كل شيء من خلال إختياره الجذري للحياة الإنجيلية، فأٌطْلِقَ عليه أيضًا إنه إنعكاس حيًا له، وصورة مرئية، بل المسيح الآخر.

  1. السر الإلهي الفرنسيسكاني

في يوم الجمعة العظيمة، في القرن الأول الميلادي، وضع يسوع ذاته أمام الله الأب، بالموت على الصليب، ولذا رفعه أبيه إلى مجده «فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى
ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء» (في 3: 8- 9). هذا الموت الإختياري كشف عن سرّ إلهي عظيم ألا وهو “سر حب الله” داعيًا إياه لخلاص الإنسان النهائي من الخطيئة. لذا قَبِلَّ الله الآب ذبيحة إبنه الحبيب المُقدمَة بديلاً عن البشرية المجروحة وبجراحه قررّ أن يتم خلاص البشرية. لقدّ تمَّ الكشف عن هذا السرّ الإلهي لنا في آلام وقيامة الإبن فصار مجداً لكل البشرية (راج رو 8: 21). وعلى هذا المنوال في القرن الثالث عشر الميلادي إستمرت مسيرة الكشف الإلهي لفقير أسيزي، إذ تم العثور على رجل الله، فرنسيس، قبل عامين من إنتقاله، على جبل لافرنا البري وهو بمثابة حجر خام كما يصفه دانتي أليغييري والذي يرتفع نحو إتجاه السماء في وادي كاسينتينو.

قرر فرنسيس الصعود إلى هذا الجبل ليختلي بالرّب وليعيش في عزلة أربعين يومًا في الصوم والصلاة إستعدادًا لعيد رئيس الملائكة ميخائيل الذي كان يميزه بحب خاص، فإختلى به الرب وغمره من فيض حبه وطبع في جسده البشري ما عاشه على الصليب من دروحات كعلامة حب. جبل اللافِرنا هو بمثابة “الجلجثة” التي نال عليها يسوع جراحاته على الصليب بعد أن عاش علاقة حميمة وإختلى بابيه. بالرغم من أن هذا الجبل كان موضع التهليل والتسبيح من جانب فرنسيس، إلا أنه صار ميراثًا لكل مِن أتباع المسيح وفرنسيس معا حتى يومنا هذا. ومن هنا يسهل علينا القول ان فرنسيس رجل التأمل الصامت في آلام الرب نجح في أن يشارك إبن الله قمة الالآم وقمة الحب بحميمية خاصة في علاقتهما بالله الآب فنال من قِبله نعمتي الألم والحب.

  1. الجلجثة بين يسوع وفرنسيس

صرخ يسوع بكلماته السبع على الصليب لله الاب، مقدمًا له بشريتنا وخلاصنا بل طلب غفران خطايانا. من خلال كلمات يسوع على الصليب نختبر قمة حبه للآب وقمة معاناته بالآم الصليب. هكذا على جبل لافرنا رفع فرنسيس صلاته الشديدة التي تعبر عن حالة ذهنية صافية ونقاوة قلب سامية قائلا:

ربي يسوع المسيح ، أتوسل إليك أن تعطيني نعمتين قبل أن أموت؛ الأولى: أن أشعر في حياتي وجسدي، بقدر الإمكان، هذا الألم الذي عانيت منه، يا يسوع العذب في ساعة حبك المريرة. الثاني: هو أن أشعر في قلبي، قدر الإمكان، بذلك الحب المفرط الذي أشعلته في قلبي، يا إبن الله ، لتتضامن معنا، نحن الخطأة (من كتاب زهيرات القديس فرنسيس Fioretti).

يستحيل أن تذهب سُدى صلاة الفقير. في واقع الأمر، صار مار فرنسيس كيسوع معلمه بعد الآم يوم الجمعة العظيمة. كما حلّ مجد الآب بقيامة إبنه: «فأَقامَه اللهُ مِن بَينِ الأَموات» (أع 3: 15). هكذا مع فرنسيس بعد أربعين يوم وليلة من الصوم ولقاءات عميقة بالصلاة بجبل لافرنا، التقى فقير أسيزي “سرًا” بآلام المسيح التي تجسدّت على يديه ورجليه وجنبه. ومن هنا يمكننا القول أنه تمّ كشف إلهي جديد وبشكل خارق للعادة، حتى إن رعاة وسكان منطقة لافرنا أبلغوا الرهبان أنهم رأوا جبل لافرنا مُحاطًا بجمال مشرق لمدة ساعة تقريبًا، لدرجة إنهم خافوا وإعتقدوا في بدء الأمر أن حريق ما لمس الجبل. وهذه الصورة تُماثل الصور الانجيلية العديدة التي رافقت موت يسوع حيث إنفتح العالم السماوي على الأرضي من خلال حجاب الهيكل (راج مت 27: 51) الذي كان يحجب السماويات عن الأرضيات. إذ بموت يسوع تصالّحت البشريّة بالله الأب بشكل أبدي في الإبن ثم تجددت في شخص فقير أسيزي.

كما وصف مار لوقا يسوع إنه حينما إختلى بأبيه قبل الآمه قد «وتَراءَى له مَلاكٌ مِنَ السَّماءِ يُشَدِّدُ عزيمَتَه» (لو21: 43). هكذا وصف أيضًا القديس بونافنتورا هذا الصباح الفرنسيسكاني، بأنه عند إقتراب عيد تمجيد الصليب المقدس، بينما كان فرنسيس يصلي على جانب الجبل، رأى أحد السيرافيم، بستة أجنحة مضيئة مثل النار، تنحدر من سمو السماء: تطير بشكل سريع للغاية، يحوم في الهواء، ثم إقترب من رجل الله، وظهر بين جناحيه المصلوب، الذي مدّ يداه وقدماه وهو عالق على الصليب. ثم إرتفعا إثنين بجناحيهما فوق رأسه، وطار إثنان آخران وغطوا جسده بالكامل. من خلال هذا المشهد المؤثر الذي غمرّ الفرح والألم قلب فرنسيس. كانت سعادته لا توصف بهذا الحدث الذي إختبره بنفسه ناظراً فقط إلى المسيح. لكن رؤيته للمصلوب على الصليب إخترقت روحه بسيف الشفقة المؤلم. بينما كان يحدق في المصلوب بدهشة عظيمة، أدرك أن ضعف العاطفة البشرية لا يمكن أن يتعايش مع الطبيعة الروحية والخالدة للملائكة. ومن هنا فَهِمَّ غرض هذا الوحي الإلهي، الذي من أجله أظهرت العناية الإلهية ذلك الكشف الإلهي، لإعلانه مُسبقًا بأنه كصديق للمسيح، فهو على وشك التحول إلى الصورة المرئية: المسيح المصلوب ولكن ليس باستشهاد الجسد بل بنار الروح القدس.

الخلاصة

في القرن الحالي الحادي والعشرين، يمكننا أن نتأمل في تجربة فرنسيس الخارقة للعادة، فإن “نار الروح” هذه في الواقع ممكنة لكل واحد منا أيضًا. يمكننا جميعًا أن نقتدي به في تبعيته للمصلوب القائم من خلال البحث عن صداقة وعلاقة حميمة أكثر مع يسوع الذي شفانا بجراحه. ما علينا إلا التعمق بأمانة في تضامنه معنا، والنظر لوجهه وتتبع خطواته بحماس، وتجديد مشاعر الصلاح والرحمة، والإستماع إلى صوته القائل: «يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم» (يو 17: 24).

 نحن أيضًا مدعوون لأن نكون ، مثل فرنسيس “المسيح الاخر” كحضور ملموس للرب يسوع ورسالته الخلاصية لكل إنسان. قبول اللألم الأرضي ما هو إلا إستباق لقبول المجد السماوي. وإدراك أن من يحتضن يسوع المتألم والجريح يحتضن في ذات الوقت المسيح القائم. إذن بروح الإيما لا يتوجب علينا أن نخشى الألم أو الجراحات البشرية فهي بصمة جراحات الاإن في حياتنا البشرية وغرضه مشاركتنا له في مجده الأبدي. هناك جراحات يسمح بها الآب لشفائنا وما علينا إلا أن نقبلها بارادتنا لأنها تقربنا من المجد السماوي. فرنسيس ما هو إلا مثل بشري رغب في قمة الحب والألم، كانسان واقعي ومؤمن عاشق للرب. بالتالي نال ما طلبه ومجده الآب كما مجد إبنه وهكذا تتم الكتب المقدسة: «فإِذا اتَّحَدْنا بِه فصِرْنا على مِثالِه في المَوت، فسنَكونُ على مِثالِه في القِيامةِ أَيضًا.» (رو 6: 5). فلنتهلل مع اشعيا النبي قائلين حقًا: «بجُرحِه شُفينا» (53: 5).

Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير