9. الحياة في الإيمان
الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
في مسيرتنا لفهم تعليم القدّيس بولس بشكلٍ أفضل، نلتقي اليوم بموضوع صعب ولكنّه مهم، ألّا وهو التبرير. ما هو التبرير؟ نحن، من خطأة، صرنا أبرار. من جعلنا أبرارًا؟ إنّ مسيرة التغيّير هذه هي التبرير. نحن أبرار أمام الله. هذا صحيح، لدينا خطايانا الشخصية، لكنّنا في جوهرنا نحن أبرار. هذا هو التبرير. كان نقاش كثير في هذا الموضوع، للتوصل إلى التفسير المتَّسق مع فكر الرّسول. وكما يحدث غالبًا، فقد تناقضت المواقف. ألحّ بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، وكذلك في الرسالة إلى أهل رومة، على أنّ التبرير يأتي من الإيمان بالمسيح. ”ولكنّني بار لأني أتمّم جميع الوصايا!“. نعم، لكن التبرير لا يأتي من هذا، إنّه يأتي أولاً: مِن شخص ما برّرك، مِن شخص ما جعلك بارًا أمام الله. ”نعم، لكنّني خاطئ!“. أنت بار، لكنّك خاطئ، وبار في جوهرك. من جعلك بارًا؟ يسوع المسيح. هذا هو التبرير.
ما الذي يختفي وراء كلمة “تبرير”، حتى تكون حاسمة جدًا للإيمان؟ ليس من السّهل الوصول إلى تعريف شامل لها، ولكن في مجمل فكر القديس بولس، يمكن أن نقول ببساطة إنّ التبرير هو نتيجة “رحمة الله التي تقدّم المغفرة” (التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1990). هذا هو إلهنا، هو صالح جدًا ورحيم وصبور ومليء بالرّحمة، ويمنح المغفرة باستمرار. إنّه يغفر، والتبرير هو الله الذي يغفر لكلّ واحد منذ البدء في المسيح. رحمة الله تمنح المغفرة. في الواقع، بموت يسوع -وهذا يجب أن نعطيه أهمية: بموت يسوع- انتصر الله على الخطيئة ومنحنا المغفرة والخلاص بطريقة نهائية. وإذ أصبحنا مبرّرين، استقبل الله الخطأة وصالحهم. وهذا يشبه العودة إلى العلاقة الأصليّة بين الخالق والخليقة، قبل تمرّد الخطيئة. وبالتالي، فالتبرير الذي يصنعه الله، يتيح لنا باستعادة البراءة المفقودة بسبب الخطيئة. كيف يحدث التبرير؟ الجواب على هذا السؤال يدعونا إلى أن نكتشف شيئًا جديدًا آخر في تعاليم القديس بولس وهو: أنّ التبرير يحدث بالنعمة. فقط بالنعمة: لقد أصبحنا مبرّرين بالنعمة النقية. ”لكنّني لا أستطيع، كما يفعل أحد ما، أن أذهب إلى القاضي وأدفع مقابل أن أحصل على البرّارة؟“. لا، في هذا لا يمكنك أن تدفع، فقد دفع واحد عنا جميعًا وهو: المسيح. ومن المسيح الذي مات من أجلنا تأتي تلك النعمة التي أعطاها الآب للجميع وهي: التبرير يحدث بالنعمة.
يفكر الرّسول دائمًا في الخبرة التي غيّرت حياته: اللقاء مع يسوع القائم من بين الأموات على طريق دمشق. كان بولس رجلاً فخورًا بنفسه ومتديِّنًا وغيورًا، ومقتنعًا بأنّ البرّارة هي في التقيّد الصّارم بالوصايا. والآن، أصبح خاضعًا للمسيح، والإيمان بالمسيح غيّره في أعمق أعماقه، فسمح له أن يكتشف حقيقة كانت خافية عليه حتى الآن وهي أنّنا: لا نصير أبرارًا بجهودنا، لا: لا نصير، ولكن المسيح هو الذي يجعلنا أبرارًا بنعمته. إذّاك، من أجل الحصول على معرفة كاملة لسرّ يسوع، استعد بولس أن يتخلى عن كلّ ما كان غنيًّا به من قبل (راجع فيلبي 3، 7)، لأنّه اكتشف أنّ نعمة الله فقط هي التي خلصته. لقد أصبحنا مبرّرين، ونلنا الخلاص بالنعمة النقية، وليس باستحقاقاتنا. وهذا يعطينا ثقة كبيرة. نحن خطأة، نعم، لكنّنا نسير في طريق الحياة بنعمة الله هذه التي تبرّرنا في كلّ مرة نطلب فيها المغفرة. لكنّ الله لا يبرّر في تلك اللحظة: نحن مبرّرون من قبل، لكن الله يأتي ليغفر لنا مرة أخرى.
الإيمان في نظر الرسول له قيمة شاملةٌ كلَّ شيء. إنّه يشمل كلّ لحظة وكلّ جانب من جوانب حياة المؤمن: من لحظة المعموديّة إلى لحظة مغادرة هذا العالم، كلّ شيء مَلِيءٌ بالإيمان بموت يسوع وقيامته من بين الأموات والذي يعطي الخلاص. التبرير بالإيمان يشير إلى أولويّة النعمة التي يمنحها الله للذين يؤمنون بابنه دون أي تمييز.
ومع ذلك، يجب ألّا نستنتج أنّ شريعة موسى لم يعد لها قيمةً بحسب بولس، بل إنّها تبقى عطية من الله لا يمكن إلغاؤها، وهي “مُقَدَّسة” (رومة 7، 12) كما كتب الرسول. كذلك بالنسبة لحياتنا الرّوحية، يجب المحافظة على الوصايا، ولكن حتى في هذا لا يمكننا أن نعتمد على قوتنا: نعمة الله التي ننالها في المسيح هي أساسيّة، تلك النعمة التي تأتي إلينا من التبرير الذي منحنا إياه السّيّد المسيح، والذي دفعه من قبل من أجلنا. منه ننال الحبّ المجاني الذي يسمح لنا، بالمقابل، أن نحبّ بطريقة عمليّة.
في هذا السياق، من الجيّد أيضًا أن نتذكّر التّعليم الذي يأتي من الرّسول يعقوب، الذي كتب: “تَرَونَ أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بِالأَعمالِ لا بِالإِيمانِ وَحدَه -يبدو عكس ذلك، ولكنّه ليس العكس-. […] فكَما أَنَّ الجَسَدَ بِلا رُوحٍ مَيت فكذلِكَ الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيت” (يعقوب 2، 24. 26). إذا لم يظهر التبرير مع أعمالنا، فسيكون هناك، تحت الأرض، كما لو كان ميتًا. التبرير موجود، ولكن يجب أن نحققه من خلال عملنا. وهكذا تُكَمِّل كلمات يعقوب تعليم بولس. لذلك، فإنّ جواب الإيمان لكليهما يتطلب أن نكون فعّالين في محبّة الله ومحبّة القريب. لماذا ”فعّالين في تلك المحبّة“؟ لأن تلك المحبّة خلصتنا جميعًا، وبرّرتنا بمجانيّة!
التبرير يدخلنا في تاريخ الخلاص الطويل، والذي يبيّن عدالة الله: أمام سقوطنا المستمر في الخطيئة ونواقصنا، الله لم يستسلم، بل أراد أن يجعلنا أبرارًا وقد فعل ذلك بالنعمة، بإعطائنا يسوع المسيح، وبموته وقيامته من بين الأموات. قلت أحيانًا ما هي طريقة الله في العمل، وما هو أسلوبه، وقلت ذلك في ثلاث كلمات: أسلوب الله هو القرب والرّحمة والحنان. إنّه قريب منا دائمًا، وهو عطوف وحنون. والتبرير بالتحديد هو القرب الأكبر والرّحمة الأكبر والحنان الأكبر من الله إلينا، نحن الرجال والنساء. التبرير هو نعمة المسيح، وبموت المسيح وقيامته جعلنا أحرارًا. ”لكن، يا أبتِ، أنا خاطئ، لقد سرقت…“. نعم، ولكن في جوهرك أنت بار. دع المسيح يحقّق هذا التبرير. نحن لسنا مدانين في جوهرنا، لا: نحن أبرار. اسمحوا لي بالكلمة: نحن قديسون في جوهرنا. وبأفعالنا نصير خطأة. لكن في جوهرنا نحن قديسون: دعوا نعمة المسيح تأتي إلينا وتلك البرّارة، وهذا التبرير يعطينا القوّة للاستمرار. وهكذا، فإنّ نور الإيمان يسمح لنا أن ندرك كم هي لامتناهية رحمة الله، النعمة التي تعمل لخيرنا. لكنّ النور نفسه يجعلنا أيضًا نرى المسؤولية الموكولة إلينا للتعاون مع الله في عمله الخلاصي. قوّة النعمة تحتاج إلى أن تتحّد مع أعمال الرّحمة التي نقوم بها، والتي نحن مدعوون إلى أن نعيشها لنشهد كم هي عظيمة محبّة الله. لنمضِ قُدُّماً بهذه الثقة: لقد بُرّرنا جميعًا، نحن أبرار في المسيح. يجب أن نحقّق هذا التبرير من خلال عملنا.
*******
قِراءةٌ مِن رِسالَةِ القِدّيسِ بولس الرَّسول إلى أهلِ غلاطية (2، 19-20)
[أَيُّها الإخِوَة]، قَدْ صُلِبتُ مَعَ المَسيح. فَما أَنا أَحْيا بَعْدَ ذَلِك، بَلِ المَسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنْتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وَجادَ بِنَفْسِهِ مِن أَجْلي.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
تَكَلَّمَ قَداسَةُ البابا علَى التَّبْريرِ في إطارِ تَعْلِيمِهِ في الرِّسالَةِ إلى أَهْلِ غَلاطية. قال: أَشارَ بولسُ إلى أنَّ التَّبْريرَ يأتي مِنَ الإيْمانِ بالمَسيح. التَّبْريرُ هُوَ نَتِيَجَةُ رَحْمَةِ اللهِ التي تُقَدِّمُ المَغْفِرَة. بِمَوْتِ يَسوع، انْتَصَرَ اللهُ علَى الخَطيئَةِ وَمَنَحَنا المَغْفِرَةَ والخَلاص. وإذْ أَصْبَحْنا مُبَرَّرِين، اسْتَقْبَلَنا اللهُ وَصالَحَنا. وَهذا ما حَدَثَ مَعَ بُولس نَفْسِهِ عِنْدَما التَقَى مَعَ المَسيح وَآمَنَ بِهِ، إذَّاكَ اكْتَشَفَ أَنَّنا لا نُبَرَّرُ بِجُهُودِنا، بَلْ بِنِعْمَةِ المَسيح. الإيْمانُ بِمَوتِ يَسوعَ وَقِيامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأمْواتِ هُوَ الذي يُبَرِّرُنا وَيُخَلِّصُنا. وَأَضافَ قَداسَتُهُ: مَعَ ذَلِك، يَجِبُ أَلَّا نَسْتَنْتِجَ أنَّ شَريعَةَ مُوسَى لَمْ يَعُدْ لَها قِيمَةٌ، بَلْ هِيَ عَطِيَةٌ باقِيَةٌ مِنَ اللهِ لا يُمْكِنُ إلغاؤُها، وَهِيَ مُقَدَّسَة، كَما قالَ القِدِّيسُ بُولس. كَذَلِكَ بالنِسْبَةِ لنا، يَجِبُ أنْ نُحافِظَ علَى الوَصايا، وَلَكِنْ تَبْقَى نِعْمَةُ اللهِ التي نَنالُها في المَسِيحِ هِيَ الأَساسِيَّة. وَمِنَ الضَّرُوريّ أَيْضًا أَنْ نَتَذَكَّرَ كَلامَ الرَّسولِ يعقوب الذي قال: الإِيْمانُ بِلا أَعْمالٍ مَيِّت. فالإيْمانُ يَتَطَلَّبُ مَحَبَّةَ اللهِ والقَريب. واخْتَتَمَ قَداسَةُ البابا تَعْليمَهَ وَقال: أَمامَ سُقُوطِنا المُسْتَمِرِ في الخَطيئَةِ وَنَواقِصِنا، الله لَمْ يَسْتَسْلِمْ، بَلْ أَرادَ أَنْ يَجْعَلَنا أَبْرارًا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بالنِعْمَة، بإِعْطائِنا يَسوعَ المَسيح، وَبِمَوْتِهِ وَقِيامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوات.
*******
Speaker:
أُحيِّي المُؤْمِنِينَ الناطِقِينَ باللُغَةِ العَرَبِيَّة. نُورُ الإيْمانِ يَسْمَحُ لَنا أَنْ نُدْرِكَ كَمْ هِيَ لامُتَناهِيَة رَحْمَةُ الله، النِعْمَةُ التي تَعْمَلُ لِخَيْرِنا. لَكِنَّ النُورَ نَفْسَهُ يَجْعَلُنا أَيْضًا نَرَى المَسْؤُولِيَةَ المَوْكُولَةَ إليْنا لِلْتَعاوُنِ مَعَ اللهِ في عَمَلِهِ الخَلاصِي. بارَكَكُم الرَّبُّ جَميعًا وَحَماكُم دائِمًا مِنْ كُلِّ شَرّ!
*******
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana